عنوان الموضوع : فيلسوفة النمل..من عيون الأدب العربي..
كاتب الموضوع : admin
مقدم من طرف منتديات ايمازيغن


هذه إحدى مقالات الرافعي يرد فيهاعلى طه حسين زوره وتزويره، وطول اسمه وغروره....!!


* فيلسـوفـة النـمـل *
لقد أضجرني بعض الناس وآذوني بإحسانهم، إذ جعلوا نسختي من ( كليلة ودمنة ) أكبر همهم من الأدب وأكثر قولهم في الكتابة، فانا كل يوم أتلقى من كتبهم ما لا أقضي منه عجبأ، ولا يدرون أنهم بذلك يسبون الجامعة المصرية إذ كيف يبلغ مثلي جسيمأ من الأمر في البيان والكتابة وعندنا هذه الجامعة الكبرى وفيها شيء اسمه أستاذ الآداب العربية ؛ فلم لا يسألون أستاذ الآداب هذا أن يبدع لهم فنأ من فنون الكتابة ليدل به على قيمة نفسه ويعلمهم موضعه، ثم يدل بقيمة نفسه وموضعه على مكانة الجامعة ؛ والعهد بكل جامعة في الدنيا أن لا يدرس فيها الأدب إلا بليغ مخترع يحمل قلمأ كهربائيأ في جمعه بين سلكي الشعر والكتابة ، وفي سطوع النور البياني منهما معآ آخِذاً من هذا مادة ومن هذا مادة ، فيقذف بالعبارة المضيئة المشرقة تخطف خطف البرق وإن فيها بعد لقوة السماء وروحًا من روح الكون كله .
فإن قالوا إن إستاذ الأدب في الجامعة المصرية رجل سوقى الطبع غليظ الروح مطموس على قلبه ، تفضله العامة في النكتة البيانية وفي استعداد الطبع الشعري وفي رقة الروح ، وإنه لذلك يعادي البلاغة العربية بجهده لما يعرف من الوهن في كلامه ، ومن ذلك ما يزعم أنه "جديد" أي لا يقاس إلا بقياسه هو لا بقياس من فلان وفلان- إن زعموا ذلك قلنا : فالجديد في كل هذا أن الجامعة المصرية تحمل الشهادة على نفسها من هذا الرجل بأنها في إحدى اثنتين: إما غاشة مخادعة ، وإما مغفلة مخدوعة ؛ فسلوها أيهما هي ؟
أما إن طه حسين جديد على الدنيا غريب فيها بنبوغه منفي من ملكوت السماوات محروم لذات الجنة مرسل إلى مصر خاصة ليجدد هذه الأمة ثم يعود إلى سمائه بعد هذا "الانتداب " الإلهي ... فقد قال كليلة: وإن الجنون قد يكون من بعض العقل ، وذلك حين يقطع العقل بالظن الضعيف ويحكم بالرأي القائل وليس مع هذا الظن برهان ولا مع ذلك الرأي دليل ، كالذي كان من عقل فيلسوفة النمل .
قال دمنة: وكيف كان ذلك ؟
قال: زعموا أن نملة خرجت تسعى فيما يسعى له النمل، فابطأت على قبيلها أياماً وافتقدها جماعتها، وكان يقال لها " طاحين " [ منحوتة من طه حسين ] فلما طال غيابها قالت نملة: يا أيها النمل إن طاحين لبلاء علينا، وهي لصيقة فينا تعد منا وليست هنا، فإنا نعمل فيما يسرنا الله له من الكدح والدأب على مذهب أسلافنا وعلى العِرق الذي فينا وهو ميزان فضائلنا وعيار مصالحنا، وطاحين هذه أبدأ تعمل على مذهب الزنابير فيما ليس تحته طائل ولا معه فائدة إلا الطنين يذهب في الهواء فلا ينفعنا، واللسعُ يذهب في أجسامنا فيضرنا ، وهي تزعم أنها تريد الفائدة لنا ولا تنفك تعمل بزعمها ثم لا تعمل إلا ضراً ، فما أحراها أن تذهب بنا جميعاً في بعض حماقاتها، وإني أحذركن ما تتورط فيه بجهلها، فإن المصيبة الواقعة بالناس من الرجل الأحمق يقع معها عذره فيكون مصيبة أخرى ، وإنا نجد في كتب الحكمة أنه متى اغتر العاقل بالأحمق فتابعه وسكن إليه واتخذه دليلاً لمراشد أموره ، كان في الأحمق المأفون حماقة واحدة وفي ذلك العاقل حماقتان! قال: فانتدبت لها كبيرة من النمل كانت من قبل أستاذة طاحين، وقالت: ويلك أيتها الجاهلة المغرورة بقديمك وأهل قديمك! ألا تعلمين أن طاحين عالمة هذه القرية ومعلمتها منذ كذا وكذا. وأنها لم تبرح في ألم ومضض وعناء مما تفكر في تجديدنا وإلحاقنا بأمة الزنابير والعصافير، لتكون لنا مملكة في الأرض ومملكة في الهواء؟ أما إنه ليس من الهلاك أن نهلك معها في سبيل التجديد ، بل الهلاك والله أن نحيا معك ومع أمثالك في هذه المعيشة المملولة التي لا فن فيها ولا جمال ولا متاع من متاع الطباع الجديدة العابثة الساخرة الكافرة المستهترة بالفنون ولذاتها ومناعمها، فما نبرح ندأب الساعات الطويلة في جر الحبة والذرة والهنة من الهنات، وبعد أن نكون أضعنا ساعات أطول منها في التماسك والتفتيش عنها ؟ ولو قد تشبهنا بغيرنا ، ولو قد طرنا ، لكانت الحياة أضعاف ما نحيا ، والأسباب مطلقة مباحة من غَلَبَ سَلَب ، والأمور متروكة مخلاة من أقدم لها سُخرت له ، وإن أعجز العجز أن لا نكون كما نريد ولا نريد أن نكون ، ولو صدقتْ همة النملة منا ثم أرادت أن تكون جواداً سابقاً أو فيلاً عظيماً لكانت!
( قالت) : وما أرى طاحين إلا معدلة من طباعنا ومجددة في حياتنا ، ثم بالغة بنا أسمى منزلة في مصالح الدنيا ، وهي لا تجشمنا إلا أن نتبعها، وما في اتباعهـا كبير تعب ولا صغيره ، وهي فيلسوفة وأنتنّ جاهلات، فسبيلها ما شاءت لنفسها وسبيلكن ما شاءت لكن !
قالت النملة العاقلة: إن هذا فرع ليس من أصله، وإنما نحن أمة من النمل ومعنا من فضيلة الكد والصبر عليه ، والدأب والمطاولة فيه، ومن صحة التقدير وحسن التأتي للعواقب البعيدة ، ما لو وُزن بمنافع الأجنحة كلها لرجح بعضه على جميعها ، وإذا كنا بطيئات وكنا نعمل أبداً فما ضرر ذلك إن كنا لا نسأم أبدآ، وإن البطء والقوة إلى زيادة ، خير من السرعة والقوة إلى نقص، وإنما مثلنا مثل الذي قال : هيهات إن عظمة لا تشترى بذهب الدنيا!
قالت النملة: وكيف كان ذلك؟
قالت: زعموا أن رجلاً فقيراً أيسر بعد الخلة الشديدة، وأقبلت عليه الدنيا بعد إدبار طويل ، فكانت كالنهر مقبلاً على مصبه : إنما همته أن يندفع لا يثنيه عن ذلك شيء، وكانت لا تطلع شمس يوم إلا جاءته مع أشعتها أكياس الدنانير ، كان له شمسين إحداهما ذهب ، وذلك من غنى الرجل وتيسيره ، وجعلت الأقدار الجليلة تطرق عليه بابه لا تهدأ ولا تنقطع ، فما يستقبل نعمة إلا طرقت عليه أخرى ، واتخذ الدواب والحاشية والموكب ، فركب ذات يوم فنفرت به الدابة واعتراها ما يعتري أمثالها من الهيج والتقحم والمخاطرة، فأذرته عن ظهرها ورمت به كما ترمي بخشبة أو حديدة ، فأصابت قدمه حجراً فكسرت كسراً لا انجبار له ، فكان لا ينهض بعدها إلا متحاملاً ولا يخرج إلا محمولاً، وتضاعفت النعمة وجعلت تفشو وتمد كأن فيها روح تيار شديد ينبعث من السماء .
قالت: ولما كان يوم العيد خرج على قومه في زينته، فرآه طالب عالم فقير كان يمشي مع أستاذه - وكان أستاذه حكيماً - فبهره ما عاين من حال الرجل وقال: يا سيدي، ما أجمل النعمة وما أحسن أثرها على صاحبها، وإن الله ليدير حركة الأرض ولكنه ترك للمال أن يدير حركة أهل الأرض فَنَحلُه بذلك شيئاً من الإلهية ، وما أشقى المحروم وأكثر عناء الفقير، فهو المسخر ولا ريب ، وليس من البلاء أن مثلي لم يزل يحيا ، ولكن البلاء كيف يحيا ! فقال الأستاذ: هوِّن عليك يا بني، فإن كل ما تراه فنعلك خير لك منه، لأنك تنتعل على قدم صحيحة وهذا الرجل ما جاءه الغنى يجري إلا ليقعد هو فلا يمشى ! وأنت تظن أنه يبتاع بذهبه كل ما أحب، على أنه لا يحب إلا عَظمة لقدمه المكسورة ،
وهيهات أن تبيعه الحياة عظمة بكل ذهب الأرض !
قال كليلة: وطال الخلاف بين النمل، فإذا " طاحين " مقبلة تسعى ، فقالت: ما كنتن فيه بعدي ؟ فذكرن لها ما تراجعن فيه القول وما كان الجدال عليه ، قالت: ألا دعن مثل هذا النمل الدين وإنما نحن نمل الدنيا. وقد كشفتُ لكن عن عالم جديد كان مجهولاً، وسآخذكن إليه فنغمره ونملكه، فاتركن هذا القديم وما كنا نتعايش عليه ، وهلممن إلى العالم الجديد وافعلن ما آمركن به.
فقالت العاقلة: ما أنا بذاهبة ، وما يكون الجديد جديداً باسمه ولكن بمنفعته، ولا منفعة إلا عن يقين، ولا يقين إلا بعد تجربة، ولا تجربة إلا في ملاءمة ومصلحة، فإذا أنكر طبعي أنكرت، وقد قالت العلماء: إن ثلاثاً لا تصلح مع ثلاث: الحياة مع المرض، واليقين مع الشك، والطبع مع التقليد، فانا آخذة بظاهر العمل والحيطة، وتاركة لكن باطن العلم والفلسفة وسترين وأرى .
قالت الكبيرة من النمل: إنما أنت من أنصار القديم ولن تفلحي أبدأ، ونحن ذاهبات على حبك وكرهك، وإنما الدنيا ما ياتي لا ما يمضي، وما يولد لا ما يدفن، وستريننا في عالمنا الجديد أولات أجنحة مثنى وثلاث ورباع !
ثم إنها نظرت لطاحين وقالت: أما قلت آنفأ إن هواء ذلك الإقليم ينبت الأجنحة!
قالت: بلى، وإن هي لم تنبت فقد نظرت في هذا، وسنصنع كما صنع الإنسان حين لم يطر فاتخذ الطيارات، وامتنعت عليه قدرة سُخرت له قدرة تكافئها، فكان من هذا تعديل لهذه، وسنحتال لبعوضة فناسرها ونذللها تذليلة الآلة في العمل، فتطير بنا مرة وتقع مرة ، حتى إذا رُضناها وانقادت لنا وسوينا بين طباعها وطباعنا وأصبحت تطير وتنزل عن أمرنا وتطبعت على الطيران، ولذت لنا من بعذ طيارات كثيرة...!
قال: ثم إنهن تزاحفن صفوفاً مرصوصة ومضين يتبعن " طاحين " وهن يتهامسن أنه ما من منزلة في العلم بعيدة أو قريبة إلا ولهذه الفيلسوفة خطوة هي بالغتها... قال: وينتهين إلى العالم الجديد فإذا ...
وسكت كليلة.
قال دمنة: ويحك فإذا ماذا ؟
قال: فإذا كرة صبي ملقاة في ركن من الدار، فقالت طاحين: ههنا ههنا، فهذه هي أرضنا الجديدة !
فلم يكن غير بعيد حتى غشينها من جميع جوانبها فإذا هي في رأي العين كأنها مكتوبة بالخير. واستوت طاحين على حدبة الكرة تفكر فيما تجدد لهن من واضح وخفي وظاهر ومُخيل، وما لبث الصبي أن عاد من المدرسة وفي جلده لذعات الضرب لأنه لم يحسن كتابة درسه، فأهوى إلى الكرة بيده ئم نظر فإذا هي سطور فوق سطور، فقال: لعن الله الكتابة أدعها في المدرسة فتمشي حروفها إلى الدار ثم ركض الكرة بقدمه ركضة شديدة أتت على نصف النمل وطحنت أسفله باعلاه، فتهارب الباقيات يسعين إلى نجائهن في كل وجه ومهرب، وهو يقتفيهن بحذائه ويدوسهن حيث عرضن، فلم ينج منهن إلا قليل ذهبن متضعضعات إلى القرية، فتلقتهن النملة العاقلة وقالت: ما أمر جاء بكن من العالم الجديد ؟
فتكلمت نملة وقالت: لعن الله الجديد ومجدده وآخذه ومعطيه، إن كان والله إلا حذاء صبي خبيث ودوساً دوساً وحطماً حطماً، فمن لم تهلك فلن تنسى أبدأ أنها من الهلاك رجعت !
ولقد محصنا الامتحان والابتلاء فما كان لنا من جديد مع طاحين المشؤومة إلا أن اشترينا حياة بعضنا بهلاك البقية، ولا جديد في عقل المجنون إلا جنون العاقل .

والله تعالى من وراء القصد ،،،




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©