عنوان الموضوع : رحلة عبر حاجز الزمن... ادب عربي
كاتب الموضوع : imilla
مقدم من طرف منتديات ايمازيغن

مختارات من منشورات
نشر هذا المقال في جريدة الوطني
]

رحلة عبر حاجز الزمن...



وقف شيخ كالثلج شعره بياضا ،وتجاعيد جبهته تنبئ بمرور أحداث تعودت فيها عيناه على الانفتاح دهشة واستغرابا ،فجعلته يؤمن أن الصمت هو خير وسيلة يقابل بهاهذا الوجود الذي طالما أخرس الجميع بأهواله،كان يحاول ألا يفزع الفتى المار من زقاق مظلم لا تتسرب اليه سوى انوار باهتة من قمر متلألئ ، فتقدم نحوه بهدوء وهو يردد عبارات الطمأنينة علها تبعثالى قلبه الثبات ، -لا تخف يا أخي، -أخوك؟ أنت بمثابة جدي أيها الشيخ، رسم على شفتيه ابتسامة تجريدية تحمل أكثر من معنى ،وقال في هدوء أكبر،-كلانا على صواب وليس فينا مخطئ، لكن دعك من هذا فغايتي ليست دراسة الأعمار ،ولكن ما يمكن ان تحمله لنا أعمارنا من سعادة، -سعادة؟ هيهات أن نفهمها أو نلمسها ونحن أسرى القيود الزمنية، مادام هناك ماض نتحسر عليه ، ومستقبل نخافه فنحن تائهون وهل للتائه سعادة؟، و كأنه لا يصر إلا على الابتسام الذي يحمل الألحان المضطربة ، ليتراقص قلب الفتى دون اتزان أو وتيرة محددة،ثم يرد بصوته المبحوح مصطنعا الهدوء دوما،-يبدو عليك يا أخي-أو يا بني- أن لك فلسفتك الخاصة التي تزن بها ماحولك، وأنت بجوابك هذا تذكرني بشخصي الذي كان يؤمن أن السعادة نملكهاحين نتطلع إلى الغيب ونكسر حاجز المستقبل،أما الآن...، ثم صمت بعد تلعثم وكأنه يسترد عبارة تائهة ،أو كأن وعيه ينسج عبارة أخرى عكس ما كان ينسجه لاوعيه،ثم استطرد قائلا،-أما الآن فقد صرت أكثر يقينا أن السعادة يملكها المرء حين يطل على مستقبله ،-أكثر يقينا؟ ،أيمكن أن أفهم أنك حصلت على سعادتك؟،تجمدت شفتاه على صورة اللامعنى الذي يحمل كل معنى تاركة عيناه تبتسمان قائلا،-أنا قد حصلت عليها بحصة أوفر،لم أر مستقبلي فقط وإنما معه مستقبل الانسانية جمعاء ،وكم هي سعادتي كبيرة،مستقبل الانسانية؟، أرجوك لا تخبرني أنك ماركسي المذهب ،تجعل الانسان كقطعة صابون يخرجها صانعها بالشكل الذي عليه قالبها،فلا هو التاريخ ولا هوالمجتمع له الحكم المطلق على مصائرنا يا سيدي، اجاب الشيخ – لا لست ماركسيا ولا عرافا ولا حكيما ثاقب البصيرة ،ولكني حققت سعادتي بهذا الكتاب الذي أهداني اياه شيخ حين كنت في مثل سنك، وقد دار بيننا نفس الحوار الذي يدور بيني وبينك الآن، فكأن الزمن يصر على أن يعيد نفس القصةبأسماء مختلفة،-و ما حكاية الكتاب؟،-حكايته أعجب من ان تصدقها فيستحيل وصول حقيقتها، لذلك سأخفي عنك حقيقته حتى تكتشفه وحدك، كما اكتشفته أنا من قبل وحدي،هاك كتابي هذا،اقراه بتمعن وإياك إياك أن تلقي به جانبا قبل أن تتمه لأنك ستضيع سعادة لو يعلمها الناس لتقاتلوا عليها بالسيوف والرماح،-تقصد بالدبابات والمدافع،-أجل بالدبابات والمدافع، واعلم يا أخي أنك ستجد موضوع الكتاب تافها لاعلاقة له بالسعادة ولا مستقبل،قد تجد فيه قصة مملة،لا عليك أكلمها،أوتجد وصفات للطبخ،أيضا أكملها،ليس الغاية فيما تفهم،الغاية فيما تقرأ،سلم الشيخ الغامض الكتاب للفتى وأصر أن يختفي بين المنازل متجاهلا نداءات الحيرة التي وضعها فجأة على قلب ساذج يبحث عن سعادة، بعدها رجع الفتى الى داره وعلامات الحرية مرسومه على جبينه ، ثم أغلق باب الغرفة عليه بإحكام ،وجلس على كرسيه فاتحا الكتاب بكل اهتمام، لينهل من حكمته كما نهل الشيخ، كان كما أخبره الرجل، الكتاب أكثر من ممل، بل يكاد يقتل مللا والأدهى، أنه لا يحمل أية رسالة ولا أي معنى، حتى انه كاد يلقيه جانبا، لولا علمه أن النجاح دوما نصله عند اجتياز العقبات، وقد تكون هذه احدى عقبات الوصول الى السعادة، وكم من أمور تافهة لو اهتممنا بها حققت سعادتنا، هكذا كان تفكيره الساذج الذي تعلمه في صباه،"خذ الدواء المر لكي تبرأ"،تحامل على نفسه إلى أن وصل الى منتصف الكتاب ،وحينها أحس بشعور مريب أوجس منه خيفة،وجد نفسه واقفا بجانب منزل بسيط في قرية ،وانتبه إلى هذا الكتاب العجيب وهويحمله بيسراه ،ثم تناهى إلى سمعه صوت، يحمل في نبراته ضجر الأزمنة كلها ،وهويقول :هيا أيها الأشقياء ادخلوا
ثم اخذ يضرب رجله على الأرض ويزمجر " تبا لهذه المهنة المتعبة"، في أول الامر شعر الشاب بخوف الاقتراب من هذا الرجل العنيف ،ولكنه لم يجد غير التقدم سبيلا ، فهو في أرض غريبة لم يرها من قبل ،ولا يدري كيف وصل إليها ،ولا كيف يخرج منها وليس أمامه سوى ذلك الرجل ،وأولائك الفتيان الذين دخلوا إلى المنزل،فتقدم نحوه مرتعد الفرائص وقبل أن يتكلم بادره الرجل بالتعنيف،أنت تلميذ جديد في الفصل؟ ،وتحضر متأخرا؟ ،تعسا لك أيها العلم مع هؤلاء الجهلاء، حاول مقاطعته لتوضيح الامر، لكن الرجل ظرب بقدمه على الأرض مرة أخرى مكملا تعنيفه ،أدخل الآن حتى لا نتأخر عن الحصة ،وسنكمل حديثنا بعد حين ،قالها وهو ينظر إليه نظرة احتقار ،لمنظر ملابسه البهلوانية المرقعة والمزركشة ،وشكل شعره الذي يتخد شكل عرف الديك ،فهذه الهيأة ليست ببعيدة عن هيأة مهرج سوق القرية، هكذا قال الفتى بينه وبين نفسه،دخل الشاب واتخذ له مكانا بين الفتيان، وحاول الانسجام مع موقفه الذي أصابه بدهشة ،جعلته لا يبدي أية ردة فعل ،فقد جلس مطبق الصمت لا يفهم ما حوله، حين شرع الرجل في تعليمه، للحظة وقعت في خاطره فكرة المستقبل ،وأثناء صمته كان يتابع ما يدله على أن الفكرة التي طرأت عليه ليست جنونا، الملابس ليست بالأشكال الغريبة التي عودته عليها أفلام الخيال العلمي، إنها ملابس بسيطة أشبه بملابس القرويين البسطاء، و كانت في أركان الغرفة شموع تنم عن عدم وجود خصائص الكهرباء ، وجرار الماء كانت في احد اركان الغرفة ،و غرفة الدراسة هذه في أبأس حالاتها،فلا طلاء على جدرانها ولانوافذ راقية ، كأنه في قبيلة من قبائل إفريقية ،فاستخف بفكرة الانتقال إلى المستقبل،قاطع المعلم تفكيره بهذه العبارة ، هذا اليوم سيكون درسنا في التاريخ، وكم كان الشاب يعشق تاريخ عروبته ،فأحب الانتباه للدرس لعله يحدثهم عن حضارة العباسيين وقوة بغداد في عصرهم، -وعنوان الدرس هو استخدام الأسلحة المتطورة في الحرب العالمية، لم يسمع ما قاله بعد هذه الكلمة الاخيرة ،فالتاريخ إذن ليس بالبعيد وإنما هو تاريخ جنون العالم في 1937،-سنحاول معرفة كيف اندثرت الحضارة،لم يستطع مقاومة دهشته فنهض معارضا هذا الموقف، -عن أي اندثار تتحدث؟،-اندثار أعظم ما وصل إليه الانسان من رفاهية،-ولكننا نحن لم نصل بعد إلى الرفاهية، ولازال العلم يبحث فكيف تتحدث عن اندثار شيء وصلناه ونحن لم نصله بعد؟، -أنا أحدثك عن التاريخ يا غبي وليس عن حاضرنا، فعلمنا هذا مهما حاول الوصول إلى ما وصل إليه أجدادنا فلن يفلح،لأننا نحن الآن في الفصل الاخير، لقصة اسمها الانسانية على هذه الأرض ،اصمت الآن ولا تقاطعني ،زاد استغراب الشاب وتملكه شعور غريب بالهجوم على معلمه ونعته بالجهل ،فرد الشاب عن أي تاريخ ستحدثنا إذن؟،تاريخ سقوط بغداد وكل تواريخ السقطات المتتالية بما فيها تاريخ سقوط أمريكا، كأن الخرس أصابه ولم يستطع قطع صمته إلا بعد وقت طويل بعبارة واحدة،في أي زمن أنا؟، يتبع في الاسبوع القادم في مثل هذا اليوم ...





يتبع...




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©