عنوان الموضوع : اللوحة المائلة ...أول قصة لي من العربية
كاتب الموضوع : kamiliya
مقدم من طرف منتديات ايمازيغن

السلام عليكم ..هذه القصة كتبت في التسعينيات في تلك الظروف السوداء التي عاشتها الجزائر ، و قد كنت حينها طالبة جامعية فجادت قريحتي بهذه القصة ...نرجو القراءة و التقييم :

اللوحة المائلة
إنها الثانية عشرة و نصف … دقات المنبه المستدير تملأ الغرفة المظلمة حركة ، لا يزال هو جالسا على كرسيه … في يده سيجارة منطفئة ، لم يشعلها يوما ، و لم ير أبدا بدونها ، إنها تقبض على أصابعه، تشد عليهما ، كم ألف فيها العادة و الحب … يـطأطأ رأسه حينا و يرفعه حينا آخر … يجول ببصره في أركان غرفته …لا شيىء غير الظلام … غير الليل ، يدور هنا و هناك،لا تعثره كرسي و لا مائدة متعفنة و لا حتى سرير متآكل ، لا يحده حد … حرا طليقا دائما… قد يغلبه النوم … كلا … ليس نوم من يخطفه لثوان ، خياله … تلك الصور الضبابية التي تتراىء أمام عينيه الذابلتين ببطء و ألم … لا شيء غير الألم يؤانسه … ليس أرقا ما يحسه ، لقد أعتاد الصحوة الحزينة و لم يعد يحس بعينيه شيء !
نهض فجأة كمن مسه عقرب ، و سارع الى ريشته … غمسها في الأسود القاتم و خط بها خطوطا مائلة على ورقة علقت في النافذة …ضحك … بملء شدقيه و ابتعد عن النافذة خطوات ، و أخذ ينظر الى لوحته المقدسة و يمعن النظر فيها… مظلمة ! هكذا أرادها أن تـبـدو مـنـذ 7 سنـوات … لا لون غير السواد ، و لا نور غير الظلام ! … " إنها رائعة … نعم ! " قالهـا و عاد الى كرسيه ، غفل هنيهة … خطوات حثيثة تقترب ثم تستدير … إنها تصعد و تصعد …إنه جاره " سكران" هكذا سموه لكثرة سكرته !لعلها الواحدة … بلى هي كذلك… يعود هذا الرجل في أول ساعات اليوم الجديد عادة ، " يا له من مسكين! لولا تلك القارورة الخضراء لكان مجنونا،إنها تجعله معلقا بالآدمية … و لو الى حين "… رفع رأسه، إذ سقطت السيجارة من يديه… يعاود تثبيتها في أصابعه … يحك رأسه بكلتا يديه الهزيلتين … يحرك رجليه الممدوتين على طوليهما، يستدير الى طاولته المتعفنة … الى صورة رماها هناك… نظر الى الصورة المكسر زجاجها ، هي أمه … المرأة الوحيدة التي أحبها من كل قلبه،وبعدها لم يعرف أي امرأة !
أمه جميلة ، حنونة العينين، معتدلة الجسد ، كم كانت تشفق عليه ، و تحتضنه برأفتها ، لطالما رأت فيه الغربة بين إخوته … لطالما رحمت ألمه … يجذبه جسد أخر بجانبها… شقيقه الأصغر ، ذلك الذي دلل كثيرا و كرهه كثيرا… لا لم يكرهه لكنه غار منه و الغيرة حق مشروع للأدميين …ذلك الصغير جمع حنان أمه و عطف والده،و إهتمام من حوله ، كم بعد بسببه، و غرب لأجله!… لكنهما الآن رحلا … رحلا الى أرض لا يعرفاه … الى وطن آخر ! " أماه عودي … " يصرخ… بل يتمتم … و يغفل لدقائق … ثم يستفيق …ينهض… يرتشف قهوة من كأس رمي تحت كرسيه…
القرية ! يذكر ساعة زارها … في ذلك اليوم فقط أحبها … لأنها سكنت و لأول مرة مذ عرفها تسكن الحركة فيها ! و تبرد الأجساد جميعها… أقترب من الشارع المسكون بأسراب الصبيان الشرسة… لا أحد منهم يتبعه… من عادتهم أن يركضوا وراءه سابين شاتمين… لكنهم الآن لا يفعلون …أقترب من بيت العائلة الملفوف بأشجار التين و العنب …نادى " أمي ..أخي " يجيبه الصدى " إي ... إي … أين الحنان؟ … أين الغيرة ؟ " … " لم تسكت القرية عن آخرا ؟" ، يدير نظره … يصدمه حذاء رمي في الركن ، سكين ملطخ بالحمرة ، يصمت لا يبد انفعالا ملحوظا " أهلا…قد تأخرت قليلا " يلتفت بخوف و وجم …إنه المجنون! " إلهي ! المجنون يحدثه ، لطالما رماه بالحجر و الشوك …أتراه يحاكيه محاكاة العاقلين الان ، ما الذي أصاب القرية ! " أخذتهم ذئاب الجبل البرية في تلك الليلة المقدسة …نهشوا جسد أمك،و افتكوا رأس أخيك … و اختاروا معهم عشرات الأرواح الحية ثم رحلوا صامتين!…"
حبس عقله عن وعي ما يسمع …" ذئاب ...أرواح …مقدسة.." أجن المجنون فوق جنونه، أجن هو بعد عقله!؟ تركه واقفا و أخذ يحوم حول القرية ، دار حول البيوت كلها … الأحراش كلها … لاشيء غير السكون…" ماذا يعني المجنون؟… أين أمي ؟" يبدو أنهم قد غيروا مسكنهم .. لكن القرية كلها مكانها ؟ حمل حقيبته و رحل !
استفاق من تلك الصورة على دقات المنبه المستدير … انتبه أن عقاربه مضيئة ، أهناك لون مضيء في غرفته ؟ حمله بقوة و غصة و رماه على البلاط …فتعالت زفرته " طق" نثرت أجزاءه هنا و هناك …فضحك ، ضحك بملء شدقيه، ثم حمل ريشته و سارع الى النافذة، كمن ضربه على رأسـه ، غمسها في اللون الأسود القاتم ليخط بها خطوطا مائلة على لوحة علقت منـذ 7 سنوات و لم ينهها بعد.. يخطف قميصه بسرعة … يضع قبعته المرقعة ، يخرج من غرفته …يغلق بابه … ثم يخرج …
المطر الغزير يعانق المدينة ، الكلاب الضالة تحتضن الشوارع… الليل هنا و هناك يسير كاشف الوجه …إنه الظلام المقدس في هاته البقاع المقدسة .

عنابة في 04 فيفري 1998



©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©