عنوان الموضوع : العتبة ثقافة عربية
كاتب الموضوع : hamida
مقدم من طرف منتديات ايمازيغن

العتبة

[دخل الى عيادة الطبيب يقدم رجلا و يؤخر أخرى، ليس يدري علام ينجلي فحص الطبيب، فمنذ أيام و هو يحس باختناق لعين في حلقه، اختناق يزداد انقباضا كلما أشعل سيجارة.

و افترسته الوساوس، أتراه يكون سرطان الحنجرة و هو المدخن النهم الذي لايحس للوجود مذاقا بلا سيجارة؟

ابتسم له مساعد الطبيب ابتسامة ممطوطة رآه يوزعها على كل قادم يسأل عن الطبيب، ثم يركنه في قاعة الانتظار.

دخل القاعة و انزوى. تزعجه الشساعة و يفزعه العلو. لم يتفحص الوجوه التي تنتظر دورها، كانوا كالتماثيل، الكل يغرق في الصمت أو يغرس عينيه في جريدة. وبرر صمتهم في نفسه بمرضهم أو بهم الدنيا الذي يكون قد أفقدهم شهية الكلام .

لم يؤسفه الصمت، بل -على النقيض- ذلك يريحه . وطالما تساءل في نفسه من أين للناس القدرة على تلك الثرثرة التي تملأ مجالسهم؟

لكن صوتا نسويا أخذ يتسرب اليه من الجهة الأخرى خلال الحاجز الخشبي الذي قام يفصل بين الرجال و النساء، صوتا فيه بحة ، أغن قليلا، ريّاََ مفعما بالعذوبة. و رغم تفاهة الموضوع الذي كانت تحدث فيه صاحبتها، إلا أن الصوت منعش كرذاذ الموج، مموسق كإيقاع الغروب و أسراب الطيور تمخر هدأة الغسق.

ليس هناك ما يثير أعماقه، و يفتح مغالق روحه الكتوم مثل صوت امرأة طروب، فتنشط عين خياله و يمسك بالمحل المقدس فيها. و عندئذ ينهمر المطر في قلبه. مطر خرافي مازال يسح منذ أن قدم الى هذا الوجود مضغة حمراء...مطر له إيقاع النشيج القادم من الوديان و الأيام السحيقة حين كان يدرج أمام عتبة البيت حافي القدمين عاري الساقين ... يقف عند العتبة يمص أصبعه و يتطلع الى زوجة أبيه ترضع وليدها و...

و أعاده أحدهم الى اللحظة الراهنة إذ سأله عن الساعة. و اكتفى بأن كشف له عن معصمه مبينا له أنه لايحملها. و لكن عينيه انشدتا الى صورة عجيبة في الحائط: صورة أم ترضع وليدها و تبتسم، و تحتها عبارة تشيد بحليب الأم. كانت تلقمه ثديا مستديرا، أبيض،ممتلئا، له دارة قرمزية تتوهج كالشفق. و الوليد يمسكه بكلتا يديه مستكينا الى دفء حضنها.

و راح يبتسم للصورة خفيفا، و كأن الصورة تبادله الابتسام اذ كانت عيناها في عينيه، ثم راح ينصت اليها كأنها تناغي وليدها و ابتسامته ما تفتأ تزداد اتساعا ... و في داخله ينهمر مطر هتون يصفع مساحات قاحلة مترامية الأطراف، وهو متشبث عند العتبة يبحلق في زوجة أبيه ترضع وليدها و تربت عليه، و المطر يغمره، يتخلل ثيابه و يجري مع عموده الفقري. و تجري عمته العانس تقتلعه من العتبة:

ـ أتريد أن تموت تحت المطر؟ كم مرة حذرتك من الوقوف عليها وهي ترضع ولدها، إنها تعتقد أن عينك تنغص عليه حليبه فيشرق أو يتقيأ.

و ينكمش شاعرا بالذنب و الحيرة. كيف لعينه أن تؤذيه وهو لا يقصد الاّ أن يبتهج بالمشهد ؟!

و يتكور في حضن عمته منصتا للمطر في الخارج يسح و يداه تتلمسان صدرها في العتمة ... يمسكه بكفيه الصغيرتين ... يفيض عليه... يخبئ وجهه فيه... لكنه جاف !!!

ـ لماذا يا عمتي ليس فيه حليب؟

تتنهد و تضمه اليها:

ـ لأنه لم يأت، انتظرته طويلا، عمرا مريرا، دهرا مليئا بالترقب و العذاب. و اليوم تأخر كثيرا، و اذا جاء فاني لاأعرفه، أسقطت ثمري و نفضت أوراقي.

يمص ملح العرق المترسب على الحلمة و يشرئب اليها في الظلام و عواء ذئاب تتنادى بعيدا:

ـ احكي لي يا عمتي كيف ماتت؟ ألم يمهلها الموت قليلا حتى ترضعني؟

ـ لا،كان مساء موحشا، كان برق و رعد، المطر جن جنونه، جرفت السيول أكواخا و جرت حيوانات، و هدمت جسرا يربطنا بالمدينة. و تعذر على أبيك أن يحملها الى المستشفى، فاستقدمنا خالتي رقية لتقبلها في البيت. كان أبوك ينتظر عند عتبة الاصطبل متشاغلا بضفر حصير من الدوم. كان يحبها و يناديها مصباح البيت. لم تستطع خالتي رقية فعل شيء. أمك تمسك بالحبل تتلوى وتجأر، و أنت لاتريد أن تخرج، و قطة سوداء لسنا ندري من أين طلعت تتطلع الينا و تموء، تشاءمت منها و طردتها، لكنها كانت تصر و تعود. و في انشغالنا بأمك تركناها و حالها، فكانت تموء مواء غريبا بعينين ككرتين من لهب. عندما انتصف الليل كانت خالتي رقية قد نجحت في أن تصوب رأسك، و أطللت علينا، و مع خروجك أسلمت هي روحها.و التفتت الى القطة السوداء فلم أجدها، و بحثنا عن أبيك فلم نجده . في الصباح عثرنا عليه نائما في الاصطبل. كان قلبه قد أخبره. وظل أسبوعا لاينظر فيك...

هل تدرين يا عمتي أني الى الآن و قد صرت رجلا ما أبرح واقفا على العتبة؟أينما توجهت أحسني على العتبة، أبي كنت على عتبة قلبه فلا هو أحبني و لا هو أبغضني، لكنه ظل ينظر الي في قرارة نفسه على أني طالع شؤم. في المدرسة كان ترتيبي دائما على عتبة السقوط، أقضي الفصل أمص رؤوس أقلامي ، يكسر المعلم قلمي و يسخر مني: مكانك في روضة الأطفال. ينفجر التلاميذ ضحكا و أقف أنا على عتبة البكاء محمر الأذنين.

و حينما وقفت على عتبة الرجولة و أقلعت عن مص أقلامي، صرت أمص السجائر. و الغريب يا عمتي أني لست وحدي الذي ألازم العتبة! فالبلد كله واقف على العتبة، بعض المحللين يرى أنه لم يتزحزح عن عتبة الاستقلال منذ كم سنة، و بعضهم يقول إنه على عتبة حرب أهلية، و آخرون إنه على عتبة الدولة العلمانية، و بعضهم إنه على عتبة الدولة الأليغارشية، وبعضهم ينتقد المسيرين أنهم ظلوا يمصون و يمصون حتى أشرفوا بالبلد على عتبة الافلاس. أليس هذا مثيرا للغرابة؟ أتراهم هم أيضا لم يرضعوا أمهاتهم وهم صغار؟

و أعاده ذكر الرضاعة الى الصورة المثيرة في الجدار. الأم الطيبة تلقم ثديها المقدس وليدها.
إنه يسمعها الآن تلاعبه و تناغيه بوضوح: ارضع من صدري، ارضع حليبي، حناني و حبي، فرحتي لما أهللت علي و ملأت وجودي، خذ مني اليك و احملني فيك عبر الزمن و المسافات، في مسراتك و مضراتك، في انتصارك و انكسارك، ارضع ليشتد زندك بطلا على الحدود، طالبا في المعاهد، عاملا في المصانع و الحقول، سفيرا تشيع ذكري في البلدان، ارضع من صدري...

كان يصغي اليها و المطر الصاخب ينهمر في داخله يجلد مساحات مترامية الأطراف، و هو يركض لاهثا يطوي مسافات الزمن يريد أن يفك نفسه من العتبة.
لكن مساعد الطبيب عاد يبتسم له على المقاس و يدعوه الى التفضل بالدخول الى الطبيب. سلم للطبيب حلقه و وساوسه السرطانية.أتم هذا فحصه و ابتسم.

ـ ذهب بك الخوف بعيدا، حلقك سليم تماما، انما هي حالة نفسية تشعرك بهذا الانقباض. و الواقع أنها تشكل ظاهرة هذه الأيام، فكثيرغيرك سبقك يشكو نفس الحالة. و هي نتيجة الضغوط التي يعانيها الناس في هذه المرحلة، فالوضع الاجتماعي ينبئ بأن الناس على عتبة الاختناق.

و طفرت منه كلمات لم يمسكها:
ـ معك حق، لقد قلت ذلك لعمتي، لست وحدي على العتبة.

لم يبد على الطبيب أنه فهم قصده فراح يوصيه بضرورة تنقية أسنانه من السوس.
خرج، ومن غير أن يشعر وجد نفسه يتوقف عند عتبة العيادة و يلتفت الى الصورة المعلقة في الجدار.
و كان المطر ينهمر، يسفع مساحات عميقة مترامية الأطراف..
[/size]



©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©