عنوان الموضوع : مقعد السيارة الأمامي ثقافة عربية
كاتب الموضوع : kouka
مقدم من طرف منتديات ايمازيغن

مرة أخرى أشعر بذلك الطعم الغريب ، إنه غريب حقا ، على مر سنوات عديدة من عمري خبرته ، و كان ذلك الطعم يزداد غرابة و مرارة بالتقادم ،اليوم تذكرت تلك الرحلة الجميلة التي قمت بها رفقة والدي ، يوم رحنا في رحلة عجيبة للجبل حيث الثلوج و الأشجار و القمم الشامخة ،رفض والدي أن يجلسني رفقته في المقعد الأمامي و قال بأنني صغير كفاية لأجلس في المقاعد الخلفية فقط . تساءلت يومها : كيف لي أن أثبت للعالم أنني كبير ؟؟ بالسحر أم بالمعجزات أم بالكرة ؟ كيف ؟... الكل يراني صغيرا ، و كعقوبة لذلك أجلس في الخلف ، طارت طيور السماء بأرزاقها و أنا أتخبط كطير كسير ،........ في المقعد الأمامي يحضى الراكب بفرصة مذهلة للاستمتاع بالمناظر الجميلة و السيارات المتلاحقة ، و كذلك برؤية السماء المتوجة بسحابات الربيع الرائقة ، سألت أمي قائلا : متى سأكبر ؟ أريد أن أنمو بسرعة جنونية لأجلس في المقعد الأمامي . قالت بلغة عجز عقلي ذات يوم عن فهمها : بالإصرار و المثابرة تنال المرغوب .
و قبل أن أفهم كلامها جلست مرغما و لسنوات عديدة في المقعد الخلفي للسيارة . كنت أرمق من الزجاج الخلفي المناظر و الجبال و الغيوم بعين ساحرة مستيقنا أن السائق و من معه من رفقة قد حضوا برؤية هذه المشاهد قبلي ، شعرت بالأسى ، و تنامى الأسى ليتحول إلى هزيمة نكراء مشبعة بالإحباط ، دخلت البيت ، تفاجأت بعودة خطوط النمل إلى المطبخ رغم أن والدي أفرغ كمية كبيرة من الماء في جحرها لتدميره ، من الفزع صرخت خائفا : أمي أمي لقد عاود النمل رجوعه .
أقبل الوالد غاضبا و صاح قائلا : عاود رجوعه رغم أنني أشبعته بالماء غرقا ؟؟
و ها هو يصب مزيجا من الماء و الإسمنت على مدخل النملات ليمنع دخولها أو خروجها ، و سرعان ما انصرف تدفعه نشوة الانتصار العارمة ،و بعد مدة قصيرة أقبل النمل يثقب جدار المطبخ من الجهة الأخرى و ينقل عبر سلسلة طويلة من النملات المترنحات بيوضا صغيرة و حبوب قمح كانت قد خزنتها لموسم الشتاء القاسي ، و تراءت لي سلسلة النملات المضطربة خطا سحريا يشق للهدف المنشود طريقه ، كأن النملات تحاول رغم ضعفها التشبث بالبقاء بكل ما لديها من مثابرة غريزية . لماذا كل هذه العزيمة ؟ و من أين تستمد قوتها المرعبة ؟ تذكرت فجاة زمنا مضى ، زمن الكفاح و النضال و الهلوسة المقيتة ، زمن سالت فيه دموع العيون على الوجوه الحائرة ، و تلبدت فيه سماء الأحلام بمخاوف نكدة ، تعلم يقينا أنني أتحدث عن زمن الشباب الأول و لا شك ، فانا اليوم شيخ ستيني يحكي حكايته مع مقعد السيارة .
شيخ سار بخطى حافية مترنحة في أرض مليئة بالأشواك و الأشراك . مقعد السيارة الذي أرقني طويلا. و خلال رحلة طويلة من التأمل تساءلت إن كان هناك من يقاسمني لذة التأمل ، و ينعم مثلي بشعور غريزي للبحث عن الحقيقة ..........في صبيحة ذلك اليوم عاد والدي من رحلة تبضع قصيرة ، كان في يده كيس أصفر صغير ، دخل المطبخ مسرعا و لاذ بقليل من الصمت . نظرت إلى عينيه فوجدت فيهما غضبا محتقنا يمتد لمليون عام . و قال غاضبا : لا بد اليوم من القضاء على النمل . عرفت فورا أنه قد اقتنى مبيدا حشريا قويا لا تملك النملات منه نجاة . و فتح الكيس الأصفر و رش على مدخل النملات بودرة زرقاء و في الحين تململت النملات على الأرض في سرعة عجيبة . تناثرت في كل اتجاه . اصطدمت بعضها ببعض . صرخت في صوت غير مسموع و كأنها تستجدي رحمة الرجل ، واصل أبي رش البودرة حتى اختفت كل حركة على الأرض . ...... صاح الوالد مسرورا : بالإصرار قضيت على مشكل كاد يهد المطبخ .
في اليوم الموالي نهضت باكرا و ذرعت أرض المطبخ طولا و عرضا ،بحثت في زواياه و أركانه عن حركة خفيفة باهتة فلم أعثر على شيئ ، لقد زالت النملات تماما ،زالت بعد أن استنفذت كل طاقاتها و امكاناتها ، و أصرت رغم ضيق الحال على البقاء فلم يحل بينها و بين رغبتها إلا قوة المبيد القاتلة ، بعد مدة من الحادثة رأيت أبي مستعدا لإخراج سيارته من الكاراج ، طلبت منه الركوب في الأمام فرفض ، حاولت معه هذه المرة بكل طريقة فرفض ، و أمام رفضه المتواصل سيطرت علي قوة إصرار عجيبة كقوة النمل ،فرحت أكسر رأسه بالبكاء و الدموع و الاستلطاف ،فنزل أخيرا عند رغبتي و كانت تلك أول مرة أركب فيها في مقعد السيارة الأمامي.



©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©