عنوان الموضوع : أقصوصتي الثانية...على هامش الحياة ثقافة عربية
كاتب الموضوع : mira
مقدم من طرف منتديات ايمازيغن

أقصوصة ...على هامش الحياة...

و هكذا أسدل الليل ستاره الأسود القاتم على الأفق المتشائم,و بدأ القمر بترتيب النجوم على وجه السماء المظلم البائس,في ليلة باردة أفرش الشتاء بين أضلعها المتجمدة ثوبا أبيض ناصعا,ليغطي بلاط الرصيف الممتد عل طول الزقاق الضيق الموحش,الذي تتناغم بين أركانه الرياح العاصفة لتبث في النفوس الرهبة و الوحشة,حينها خرج ذاك الرجل اليائس البائس الذي لم يجد إلا تلك الشجرة العارية الأغصان,ليشاركها الألم و الأحزان,و هم الماضي و الزمان,و ما خطته سنون الدنيا على قلبه من الوحدة و الحرمان,انه السيد ’حسان’ ,رجل سرق منه القدر زوجه و وحيده ’صفوان’,اللذان هجرهما للبحث عن العمل الذي لم يجده في أي مكان,فبقي وحيدا يترامى بين الأرصفة و الجدران,و لا أحد يؤازره أو يعلم بمعاناته لا أهل و لا جيران.فاستند على خصر الشجرة يعزف بنايه الخشبي لحنا شجيا رنان,ملأه الانكسار و الأسى على السنين التسع التي عاشها بعيدا عن دفء أسرته و فقدان الأمل في العودة إليها.
و بينما كان يصارع ذاك الكابوس الأليم,سمع بكاء طفل حزين يرتجف بردا و ألما,لفت جسد ذاك الفتى الذي يتراوح عمره بين العاشرة و الثانية عشر أسمال بالية مهترئة كستها صفرة الرثة و القدم,لتشكل على مظهر الفتى منظرا تعجز العيون لرؤيته لحاله المزرية اللافتة,ثم تقدم الفتى يسأل السيد حسان طعاما و الدمع ينسكب من عينيه السوداوتين الغائرتين المرشوشة بخضرة جبلية باهتة كسيل يهمي على تلك الوجنتين القرمزيتين الشاحبتين,فأعطاه السيد رغيفا من الكسرة الذي كاد أن يطحنه بين أمعائه الخاوية,و لكنه آثر تقديمه الى المسكين الذي عكست صورته لمحة بائسة عن شقي يائس بين ضلوع الحياة القاسية,و فضل بذل معروف إسعاد هذا الصغير ولو بالتفاتة بسيطة آثرتها الإنسانية و العواطف,فابتسم الفتى ابتسامة كلها أمل و تعاطف ثم أكل الرغيف بشغف كبير,ثم قبل جبين الرجل و قال- <عمي..لقد زرعت في قلبي الصغير بذرة السعادة التي لم ألمحها طيلة حياتي,و لو أكرمني القدر و أهداني أبا بمثل فضلك لما حزنت حتى و لو نالت من جسدي النحيل زوابع الجوع و البرد,فذاك الحب الأبوي كاف ليروي ظمئي و يشبع جوعي,و لكنه و أسفاه لم يدرك أن الحب و الشعور بقربه هو غذاء روحي الهائمة بذكراه و معنى تلك السعادة الأزلية المنهوبة من فؤادي >,و هنا انفجرت عينا السيد حسان دمعا و قلبه ينبض فزعا,و قال-<و ماذا عن أمك يا صغيري؟>,ابتسم الولد ابتسامة أسيانة كلها ألم و ضياع و رد -<أمي ..ريحانة روحي ...لقد ذهبت, ماتت من الشوق و القهر..كانت تعيش على أنقاض أمل ضائع أمل عودة أبي إلينا,و لكن بطش الزمان سرقها مني و رحل بها الى عالم قد لا تجد البؤس فيه ,و قد تغنت شفتاها الورديتان الرقيقتان بكلمات حفرتها أهازيجها المتضاربة بين جدران قلبي و قالت*ولدي عش لأجلي ,عش و انتظر أباك فالدنيا يا ولدي تستحق أن نعيشها من أجل أناس أعزاء لحظة بلحظة,وأن نحظى بشرف مقاومة آلامها بآمالنا* .ولحد الآن لا زالت هذه الكلمات نفسا يرتاد روحي و يشجعني على المضي قدما على مضمار هذه الحياة و أنتظر أبي فهذه هي الأمنية التي ستغير حياتي أنا الولد الكئيب الشقي صفوان الذي سيحيى لأجل أبيه حسان> , ثم انهار الولد على الأرض,تلك الأرض الندية التي جمعته بياسمينة قلبه ,وابتسامة إحسان السيد حسان لم تفارقه حتى بعد أن توقفت نبضات فؤاده المتسارعة المرتعشة,و هنا أدرك السيد حسان أن القدر قد جمعه بفلذة كبده و لكن _بعد فوات الأوان_ فاحتضن صغيره و أمضى ليلته الأزلية يتأمل وجه صغيره الباسم,بين نسائم الفراق بعد لقاء كان أسرع مما يخطر على بال شقي أنهكته أمواج فراق الغوالي.
و عندما أشرقت الشمس و نشرت خيوطها الذهبية النحيلة على وجه السماء و طردت كآبة الليل الأليمة,و زرعت في الأفق بسمة التفاؤل و الأمل,حينها تجمع الناس حول تلك الشجرة العارية التي كساها حنين اللقاء رداء الحب و الحنان,يتأملون الرجل الذي يحتضن ابنه بكل رقة ولطف,أجل فارقا الحياة, و لكن فارقاها ببسمة صنيع طيب بنى قارب اللقاء الوجداني السعيد.
و تبقى الدنيا تلك اللوحة الجميلة التي مزجت ألوانها بشفرات الأحزان و ثمرات الإحسان, أبدعت في رسمها أنامل القدر و تفننت في تلوينها زوابع الظروف.


النهاية...
فاطمة الحالمة...



©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©