عنوان الموضوع : أوستاذ أوستاذ .. الغنضور مات ادب عربي
كاتب الموضوع : inzou07
مقدم من طرف منتديات ايمازيغن

انها قصة انخراطي بالتعليم أشارككم حلقاتها فصلا فصلا .. قصة ابتدأت بعبارة :
أوستاذ أوستاذ .. الغنضور مات ..
هكذا كانت عبارة الاستقبال والترحيب التي تلقّانا بها تلاميذُ فرعية التعيين الأول , ونحن ثلاث معلمين جدد يسوقنا معلم قديم سوقا بين بقايا قبور قديمة .. لا تزال العبارات تطن بأذني ممزوجة بصورة عالقة بالذهن طالتها خدوش تراكُمِ ما يفوق العقدين من سنوات العمل ..
أذكر اليوم الذي أتاني ساعي البريد يسأل عني بالاسم .. بين يديه ظرف أصفر .. كنت حينها جالسا بعتبة الدار مع صديق دراسة .. لازمني في تلك الأيام كسند لظروف تجاوزَت قدرتي على التحمل .. كنت حينها قد وضعت أمتعتي بحقيبة وأودعتها ببيت صديق استعدادا لمغادرة بيت الوالدين إلى وجهة مجهولة في أول فرصة سانحة .. كانت الوالدة سامحها الله شديدة العصبية والقسوة لدرجة لم تعد لنا طاقة لتحمّلها .. على إثرها قررت ترك البيت .. وأنا طالب جامعة لم أعش يوما حياة غربة أو مغامرة خارج حضن الأسرة .. بذل أصدقائي الطلبة جام جهدهم لثنيي عن مغادرة الجامعة .. كونهم يجهلون ما وصلت إليه من معاناة وقهر .. لم يكن الطرف الآخر شخصا يمكنني الرد عليه .. كانت أما منع الله التأفف منها .. فكان الرحيل الحل الأوحد .. سحبت وثيقة البكالوريا من الجامعة .. وهذا ما جعل الأصدقاء يتنبهون لما اعتبروه حماقة , دون معرفة السبب .. طرقت الباب الأسهل حينذاك .. باب التعليم .. كان المترشحون يومها يكتفون بإيداع ملفاتهم لدى مراكز التكوين فيتم انتقاؤهم وقبولهم عن طريق الحاسوب حسب مفهوم الزمن آنذاك .. لكن أخوكم كان ( بونوّارة) ــ وهو نعت يطلقه العامة على عاثر الحظ ,أو جالب الحظ السيء كالمنحوس وغيره.. دفعت أوراقي لمركز تكوين المعلمين ( العنق ) بالدار البيضاء .. أو المفتي كما أسماه رفاق الجامعة معتبرين التعليم مدفن الطموحات والشباب .. كنت أرد على ملاحظات التهكم الممزوجة بنزعة حسرة وألم , بابتسامة تحمل من المعاني الكثير.. فكرةُ الانخراط بالتعليم كانت الحل الأضمن والأقرب لمغادرة البيت إلى ملاذ هروب مغلف باسم مهنة ..
تسلمت الظرف من الساعي وقرأت على ظهره عبارة ( مستعجل) مختومة بحبر أحمر بالخط العريض .. ها قد لاحت بوادر الاستجابة وأول عتبات الهروب الكبير .. فتحت الظرف فكان طلبا باللجوء العاجل للمركز .. حشود من الشباب هنا وهناك.. سبقتني .. تعجّ بها ردهات مركز العنق .. لجأت للإدارة لاستلام قرار القبول .. كنت واثقا منه .. لكن سبقتني النّوّارة هههه .. أخبرني الموظف بإغلاق ذلك المركز وتحويله لملحقة ثانوية أو إعدادية .. وأن علي إيداع ملفي لمراكز أخرى ,سرد أمامي بعضها .. لكنه بشّرني جزاه الله بالبشرى الأهم , والتي كانت صفعة النوّارة القاضية ..أنّ دخول المراكز لم يعد عن طريق الحاسوب ( الانتقاء على أساس نقطة الباك واللغة العربية) وإنما عن طريق خوض مباراة وطنية من شقّين كتابي وشفوي .. يا لَشماتة أَبْلا زازا فِيّا .. هههه جاتني الضحكة مْعَ البكية .. والرغبة في الصراخ مْعَ اللّقْوَة العسْرية ( الخرس أو شلل الكلمة بالعامية ) .. لم أدرِ كم وقتا بقيت جاثما أمامه .. أردت إخباره أن الأمر لايحتمل الخضوع لمباريات .. وأن التعليم بات ملاذي الوحيد للهروب السريع .. أردت أن أصرخ في وجهه أني رضيت بالهمّ من أجل مغادرة الغمّ .. وأنه ودولته لم يكتفوا فقط بوصد أبواب المدرسة العليا للأساتذة , والمركز التربوي الجهوي في وجوهنا .. بل إنهم يضعون الآن مسمارا جديدا ببابٍ ما كنت لأرتضيه إلا كرها وعلى مضض .. لاحظ الموظف شرودي .. فانتزعني منه بسؤال .. مُشْرِعا بوجهي ابتسامة .. اعتبرتها ابتسامة شماتة وتشفي : ــ آش اختاريتي آخايْ ؟؟ تطوان ؟ طنجة ؟ .. فاخترتْ انْغبّرْ كمّارْتي ( الوجه بشكل قدحي )مَنْ قُدّامو احْسن ..
كان مركز سطات الأقرب لمدينتي الدار البيضاء .. خاصة وقد كنت حريصا على عدم إخبار أسرتي بفعلتي .. وبالتالي تدبُّر مبلغ الناقلة بمفردي .. وصلت .. وأودعت ملفي تحت رقم 2029 .. سبقني أَلْفَا طالب وظل المركز مفتوحا لأيام .. كلما زادت , تتقلّص معها فرصي في النجاح .. يبدو أنْ عليّ الرحيل الآن إلى أي مكان .. لم أكن مهتما للوجهة خاصة وقد فعلتها وأنا صغير حين كنت تلميذا بالقسم الرابع ابتدائي.. تاريخ معاناتي ابتدأ منذ الصبا .. حدث ذلك حين تذمرت يوما من ظلمها بعد أن ضربتني لغير سبب .. أحسست بالظلم .. لم أكن أحتمل .. فأملى عليّ عقلي الصغيرُ سَلْكَ طريق باديتِنا للهروب .. لم أكن أعرف من الطريق غيرَ البِداية .. فعلا انطلقت .. فتركت خلفي آخر بيت من بيوت المدينة .. وفتحت المروج الخضراء أحضانها لاستقبال مهاجر جديد .. كانت قدماي الحافيتين تطويان طريق الإسفلت الباردة وقد أدفأهما المسير .. على الجنبات أراضي مبللة وحقول خضراء .. وبين الفينة والأخرى أصادف فلاحا خلف محراث تجره البهائم .. كان الجو غائما ينذر بمزيد من الأمطار .. اختفت المدينة بتاتا .. وبدت مشارفها خلفي بعيدة .. تفاجأت بما لم يكن في الحسبان .. تفرّع الطريق إلى سبيلين .. ؟؟؟ .. أيهما كان يسلك الوالد رحمه الله للوصول إلى البادية ؟؟ .. سلكت طريق اليسار دون سبب وجيه .. كانت سحابة الحزن تأجج الرغبة والتحدي في متابعة المسير .. وبين الفينة والأخرى تنزلق دمعة دافئة على خذيَ المتورّد بفعل الصقيع .. وتنهدات متأخرة تهز صدري الضيّق الصغير .. فجأة توقف بجانبي شاب قادم في عكس اتجاهي ..يركب دراجة نارية .. سألني عن وجهتي .. كانت البراءة حينها تغلب كل الحيل .. فأخبرته أني مسافر إلى جدتي بالبادية .. توالت أسئلته عن اسم البلدة وعن سبب القدمين الحافيين وعن الجو الماطر الذي بدأت بالفعل بعض زخاته بالانهمار .. ولما لم يجد لأسئلته إجابات.. عرف أني مهاجر غير شرعي .. يعني حارg
.. فطلب مني الركوب لإرجاعي إلى البيت .. وكذلك كان .. قطع مسافة طويلة لإيصالي .. تعجبت كيف قطعتها , ومتى .. فأخذت محفظتي وخرجت إلى المدرسة من جديد.. لم تعلم الوالدة أو غيرها من الأسرة هذا الأمر إلى حد هذه الساعة التي أخط فيها هذه السطور ..
مرت الأيام سمجى في انتظار نتائج الشق الكتابي للمباراة .. إلى أن جاء الخطاب يهنئني بالنجاح ويضرب لي موعدا للامتحان الشفوي ..
بساحة المركز علِمنا من منشور أن عدد الناجحين كان 590 طالبا.. سَرَت أخبار بالوسط أن المركز كبير يسع قرابة ال 500 طالب , وكان هذا سببا كافيا لبث الطمأنينة بالأنفس .. أن يرسب مجرد 90 من 590 .. كانت صور العبوس والاصفرار والذبول الذي تطال كل خارج من حجرات الامتحان الشفوى المنغّصَ الوحيدَ لتلك الطمأنينة.. كنا نهرع لسؤال المتماسك منهم .. فكانت إجاباتهم تزيدنا خوفا و رَهَباً .. كان كل ربع ساعة أو أكثر بقليل يتم النداء على أحدنا .. فتبتلعه قاعة من القاعات منفردا وحيدا دون أنيس .. لا تلفظه إلا وقد تحول إلى دمية صفراء باهتٌ لونها .. تُفزع الناظرين .. كأن أستاذ الشفوي دراكولا مصاص دماء .. فجأة رج نداءٌ أرجاء الساحة :
ــ الطالب حسن (...) يالَهْوِي ؟؟ .. مول لاّمانة ادّا أمانتو ..
دخلت القاعة .. أستاذٌ جالس في أنفة وزهو وعُلُوّ .. تأخذه العزة بالسلطة .. السلطان سليمان هاذا !! .. ربما كان يجول بخلده أننا حريمه .. أمامه على االمكتب علبة بها عشرات اللفافات الورقية .. طلب مني اخيار إحداها .. ؟؟؟؟؟؟ أيُّ اختيارٍ هذا بين أوراق مطوية متشابهة ؟؟ كنت كداسّ يدِه في جراب يحوي عقارب .. سلمته إحداها .. قرأ عليّ السؤال , وطلب مني الذهاب إلى الطاولة الأخيرة لإعداد الخطوط العريضة في خمس دقائق والعودة لمناقشتها .. سألته إن كان ذلك ضروريا ؟؟ تساءل متفاجئا : ــ عْلاش ؟ .. أجبته أني لستُ في حاجة إليها وأني مستعد .. وكأنه اعتبر ذلك تحديا مني , وما كنت أقصد أكثر من أني بالفعل لست بحاجة لتلك المهلة .. فجعل ( يُمَرْمِدُني ) يمينا وشمالا بوابل من الأسئلة .. أُوما خلاّ فِِيّا غِيرْ اللي تّنْسات .. حتى بتُّ أخشى أن يسألني عن أسماء الصينيين فردا فردا .. وزنـgــة زنـgــة .. لكن الحقيقة أن الله سبحانه مَن تكفّلَ بتهييئي وإعدادي.. بحيث من كثرة مفاجأة الأستاذ من قدراتي وتمكني .. سألني : ــ الأخ يَدرُس الشريعة ؟ أجبت بالنفي وأني أدرُس القانون .. وما إن سمع بالقانون حتى ( ما صدّق ) وقذف في وجهي بسؤال مقارنة القانون الوضعي بالسماوي .. وبما أن ذلك مجالي , سأتفوق عليه فيه بالتواريخ وآراء فقهاء القانون .. انخرطت في سيل من الشروحات والأفكار , علمت أنه لم يفقه منها شيئا ,فأوقفني فجأة , وقال : ــ قُومْ اتبرْك الله عليك .. فعلمتُ حينها أني نجحت .. وأني واحد من ال500 ..
الذي لا يعلمه صاحبنا أني ما كنت فقيها ولا متمكنا ولا يحزنون ..إن هي إلا مشيئة الله التي كانت تسوقني إلى هذه المهنة وهذه القاعة سوقا دون علم مني ..
حدث هذا أني في صيف ذلك العام أردت أن أقرأ كتابا عن الدين , أفتتحُ به العطلة .. وكان بالمسجد الذي أصلي به أخٌ ملتزمٌ يحترمه الكل , ُيدعى السي سفيان .. لجأت إليه وطلبت منه كتابا ..فإذا به يحضر لي كتاب ( نيل الأوطار للشوكاني ) وهو مجلد كبير .. أخذته إلى البيت وشرعت أطالع فيه , لكن سرعان ما طالني الملل كونه كان كتابَ أحكام وليس عقائد .. تركته جانبا وهممت بردّه لصاحبه .. لكن الحرج منعني خاصة وكتاب بذلك الحجم لا يُقرأ في أقل من شهر .. فقررت الاحتفاظ به لحين مرور شهر فإرجاعه له ..
مر أسبوعان .. فبدأت بعض المخاوف تتسلل خفية إليّ .. خشيت أن يسألني عن بعض محتوياته فيكتشف أني لم أقرأه .. وكان أشد ما أخشى وأكره ,التعرضُ للإحراج .. لهذا نزلت على بعض فصوله قراءة وشرحا ونهما .. التهمتها التهاما .. لدرجة حفظت معها شواهد الأحكام بالآيات ومواقع الآيات بالقرآن مع أرقامها .. هههههه بالمفيد صرْتْ افْقيه .. أرجعت الكتاب للسي سفيان وشكرته فأخذ الكتاب ولم يسألني .. بالعربية ( ما حاشاهش ليّا ) لم يعرني اهتماما ..
ما لم أكن أعرفه هنا .. هو أن الله سبحانه كان يُعِدُّني ويهيّئني لمهنة التعليم .. ذلك أن الورقة المطوية التي اخترتها من أمام أستاذ الشفوي بالمركز كان موضوعها تلك الفصول التي قرأتها بالضبط من ذلك الكتاب .. لهذا انبهر الأستاذ من تمكني الشديد حتى ظن أني طالب شريعة أو دراسات إسلامية .. والحقيقة , كون فات ليا هذاك الموضوع كون اخرجت حتانا اصفر من عندو وْلا ميلتي كولور ..
بعد أيام ظهرت النتيجة المفاجَأة .. لقد نجح فقط 60 طالب من 590 , وكنت مرتبا التاسع بينهم .. كان كل الأوائل أبناء سطات ..
وصلَت منازلَنا رسائلُ إخبار وتهنئة بالنجاح مصحوبةً بلائحة لمتطلبات الإقامة بالداخلية .. من منامات وفرش أسنان وغيرها ..
انتهى الصيف وحملنا أمتعتنا لسطات للمركز للالتحاق بالداخلية .. لكن لأسف ,مرة أخرى وجدت أن النوّارة سبقتني إليه من جديد .. أحسست كأنها تحرّض الناس ضدي .. أخبرَنا مسؤولٌ أن الداخلية لن تفتح أبوابها هذه السنة لكون عدد الطلبة قليل , وأن علينا البحث عن منازل للكراء .. ( ؟؟؟؟؟) .. وكالعادة في مواقف كارثية مفاجئة كهذه , تختلط عليك الانفعالات فتعلو وجهَك علامات غريبة فابدو معها أقرب للحمقى والبلهاء .. ماذا سنفعل ؟؟ هل ننتشر بين الأزقة نطرق الأبواب للسؤال عمّن له بيت أو شقة أو طابق للكراء ؟ أم نلجأ للسماسرة وليس معنا أكثر من ثمن العودة ؟ ومَن يختار مَن, كشريك سكن ؟ والله صدقوني .. لحد الساعة لا زلت أجهل كيف عثرت على سكن .. كان همي الوحيد ألا يكون شريكي أو شركائي مدخنين .. اِلتفتَ كلُّ واحد منا حوله .. والمجموعة القريبة منه شكل منهم جماعة واتخذوا وجهة للبحث في المجهول .. رافقت مجموعتي .. لكن ما إن أخرج أحدهم سيجارة من جيبه حتى انسحبت خلسة وعدت إلى باب المركز مسرعا قبل أن ينفض الجميع ..




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©