عنوان الموضوع : هل الوساوس التي تصيب الإنسان كلها من الشيطان؟! وكيف نفرق بينها؟ - رقية شرعية
كاتب الموضوع : hamida
مقدم من طرف منتديات ايمازيغن

هل الوساوس التي تصيب الإنسان كلها من الشيطان؟! وكيف نفرق بينها؟

إخواني الكرام قد اجبت عن هذا السؤال الذي كان من أحد الأعضاء في منتدى المجتمع ولكنه كان ضمن موضوعي في (الوسواس القهري) ، الذي قد لا ينشط لقراءته جمهور الأعضاء فأحببت أن أطرحه في هذا المنتدى مفردا بعنوان خاص تتميما للفائدة وحبا للخير.....

فلكي أجيب على هذا السؤال يجدر بنا أن نعرّج على هذه المقدمة الموطئة للجواب:

ـ الأمر الأول: أنه تبدأ أغلب حالات الوسواس القهري في سن المراهقة أو بداية الشباب حيث يحصل ثلثا الحالات قبل سن (25)، منها: (15 %) قبل سن العاشرة، وحوالي (5%) بعد سن الأربعين، وأظهرت الدراسات الإحصائية الحديثة بأنه رابع الأمراض النفسية انتشاراً في العالم، ويحصل بنسبة (2.5 %) من عدد السكان على مدى الحياة، يعني واحد بين كل خمسين فردا.

ـ الأمر الثاني: تبين بالاستقراء والملاحظة عند المختصين وأهل الشأن أن بعض الناس: يهتمون جدا بالسيطرة على تصرفاتهم وعلى محيطهم، وتراهم حذرين، مفكرين، متعمدين وغير عفويين، جافين، وليست لديهم روح النكتة، ويهتمون بدقة الألفاظ أو اللغة وبخاصة في الحالات الشديدة، وهم يؤكدون اهتمامهم بمنطقية الأشياء على حساب العواطف والحدث، ونتيجة لذلك تظهر عليهم الجدية والبرود العاطفي، ومن ناحية أخرى تتوافر لديهم الأمانة وحيوية الضمير والتشبث بالهدف والاعتمادية، وبالإضافة إلى تقيدهم وسيطرتهم على أنفسهم، فإنهم يحبون أن يلزموا الآخرين بهذا النظام، ويسيطروا على الأشياء الأخرى بالترتيب والتنسيق كالأدوات وغيرها، ويكونون عنيدين إذا ما خالفهم أو تحداهم أحد، كما أنهم يلتزمون بالعدالة والأمانة، ويحرصون على ما يملكون ويصرفون أموالهم بحرص واضح.
إن هذه الشخصية تسمى: الشخصية الوسواسية، لا تعني أنهم أكثر استعدادا للإصابة بمرض الوسواس القهري ولا تسبب لهم أية معاناة شخصية إلا إذا وصلت إلى درجة عالية من التطرف والتزمت والتكلف.

ـ الأمر الثالث: كان علماء المسلمين قديما من الذين تكلموا في علم السلوك وأمراض القلوب والنفوس، ينسبون الوسواس إلى فعل الشيطان، لأنهم عرفوا ووصفوا نوعين من الوساوس موجودين في القرآن الكريم وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وهما: وساوس النفس، ووساوس الشيطان، وأما ما عدا ذلك من الأعراض التي تدخل ضمن اضطراب الوسواس القهري اليوم فقد كانوا يعتبرونها نوعا من أنواع الجنون، وليسوا وحدهم في ذلك فقد أرجعه الكثير من الغربيين حتى عهد قريب إلى أنه كذلك.
وههنا يحسن بنا أن نضبط معنى كل نوع من أنواع الوسوسة، فهناك ثلاثة أنواع من الأفكار التي تخطر على ذهن الإنسان بشيء محرم:

النوع الأول: وساوس النفس

فكرة أو أفكار تدعو الإنسان لفعل شيء محبب للنفس بأن يفعل ما تميل إليه نفسه وتشتهيه من ملذات وشهوات، وهذه الأفكار يكون مصدرها حديث النفس، أو تأثيرات الواقع المحيط بالإنسان الذي يزين له الوقوع في هذا الأمر، وغالبا ما تتنوع هذه الأفكار في أشكالها وتفاصيلها، وترتبط بالمستوى الإيماني للإنسان، وصحبته لأخيار الناس، وانشغال ذهنه بهذا الأمر المحبب للنفس، أو باستثمار الطاقة النفسية والفكرية والاجتماعية في صداقات واهتمامات نافعة تصرف الذهن عنه.
فوسوسةُ النفس لا يمكن بحال من الأحوال أن تتعلق بمواضيع مقززة أو مرفوضة أو على الأقل غير محببة للنفس وهي بالتالي لا تسبب ما تسببه الأفكار الوسواسيةُ القهرية من قلقٍ وإزعاج للشخص.

النوع الثاني: وساوس الشيطان

أما وسوسةُ الشيطان فأمر يؤمن به كل مسلم لأن الشيطان عدو للمسلم في أمره كله دينا ودنيا لكن وسوسة الشيطان تختلف عن الوسواس القهري، فالشيطان يوسوس في حدود قدرته التي سمح له الله سبحانه بها وهي محدودة وفي مقدور كل بني آدم أن يتغلب عليها بذكر الله عز وجل والاستعاذة به سبحانه وتعالى، ولكن أهم نقطة هنا كما يقول أحد المختصين:
هي تعلقُ معنى كلمة الوسواس بالشيطان وكون الوسواس أحد أسمائه فإن الأمر يحتاج إلى تدبر كبير فقد ورد هذا الاسم في القرآن الكريم لا منفردًا بل متبوعا بصِفَـة وهي (الخناس) أي الذي يخنس ومعناها: يختفي أو يتأخر لفترةٍ ثمَّ يعاود الظهور، ويذكرُ صاحب (مختار الصحاحِ) و(القاموس المحيط) وغيرهما أنَّ (الخناس) اسم من أسماء الشيطان لأنه يخنس إذا ذكـر الله عز وجل، أي يسكت عن الوسوسة على الأقل لفترة من الوقت.
وهنا نقطتان في غاية الأهمية:

الأولى: أن الشيطان حسب النص القرآني هو الوسواسُ الخناس وليس كـل وسواس شيطان وليس كل خناس شيطان......ويقول: وحسب رأيي المتواضع فإنه من الأفضل بعد تراكم المعرفة العلمية أن نستخدم النص القرآنيَّ كما ورد فيكون الشيطان هو الوسواسُ الخناس، وليس الوسواسَ فقط ولا الخناسَ فقط.

والثانيةُ: أن الشيطان يكفُّ ولو مرحليا عن الوسوسة عند الاستعاذة بالله عز وجل وهذه أيضا نقطة في غاية الأهمية فالوساوس القهرية لا تخفت ولا تختفي بعد الاستعاذةِ بالله من الشيطانِ بل إن الكثير أيضا من وساوس النفس بالمعنى الذي بينته فيما سبق لا تختفي بمجرد الاستعاذةِ بالله من الشيطان لسبب بسيط هو أن الشيطان ليس دائما مصدرها وإن شاركَ فيها في كثير من الأحيان.
ثم يتابع ويقول: وما أستطيع استنتاجه أيضا مما سبق هو أنّ كلَّ وساوس النفس ووساوس الشيطان إنما تصول وتجولُ داخل حدودِ مقدرة الإنسان، بمعنى أنه يستطيع التعامل معها والتحكم فيها سواءً بذكر الله أو التعوذِ به أو قراءة القرآن الكريم أو بزيادة تمسكه والتزامه بشعائر دينه إلى آخرِ الوسائل الدينية لتهذيب النفس وتقويمها.

وقبل أن نعرّج على النوع الثالث من الوساوس نذكر ضابط مختصر ومعنى لطيف معتبر للنوعين السابقين ذكرهما شيخ الإسلام ابن تيمية عن أحد العلماء قال:
وقد ذكر أبو حازم في الفرق بين وسوسة النفس والشيطان فقال:
(ما كرهتْه نفسُك لنفسِك فهو من الشيطان فاستعذ بالله منه ، وما أحبَّته نفسُك لنفسِك فهو من نفسك فانْهَها عنه). مجموع الفتاوى(17 / 529 ، 530 ).

والنوع الثالث: الوساوس القهرية التسلطية

وهو ببساطة نوع من تسلط فكرة محددة وكريهة ومرفوضة على ذهن الإنسان، وتأتي هذه الفكرة بشكل متكرر جدّا، وتقتحم على الإنسان حياته لتفسدها تماما، ومحتوى هذه الأفكار قد يكون دينيّا أو دنيويّا، في العقيدة أو في غيرها من شئون الحياة، وهذه الأفكار تعبير عن المرض الذي يصيب الملتزم وغير الملتزم، المؤمن والكافر بنفس الكيفية والأعراض والمواصفات بغض النظر عن اختلاف محتوى الفكرة من شخص لآخر، فهو مرض تتضافر فيه بعض العوامل الوراثية، والاضطرابات البيولوجية الكيميائية الجسدية، والاختلالات النفسية الفردية، وبعض التأثيرات الثقافية والاجتماعية لتنتج الأعراض التي يشكو منها المريض.

وهكذا لاحظ الأطباء أن الوسواس القهري عادة ما يبدأ في الظهور عقب التعرض لضغوط شديدة في العمل، أو الامتحانات، أو الخلل والمشاكل في العلاقات الزوجية، أو وفاة شخص عزيز قريب.
وليس أدل على أن الوسواس القهري ما هو إلا مرض من الأمراض أن الأطفال عرضة للإصابة بهذا المرض بنوعيه الفكرة الوسواسية والفعل القهري الوسواسي، وللعلم فنسبة الشفاء لديهم مرتفعة طالما تم العلاج الطبي المباشر السريع.
وهنا لا بد من التنبيه في هذا المقام إلى أن الإصابة بالوسواس القهري ليست ناشئة عن قلة التدين، أو انخفاض المستوى الإيماني، أو غياب الإرادة والعزيمة والهمة، أو التقصير في الأذكار وما شابه.

وهذا لا بد من بيانه كي لا يسيء الشخص الظن بنفسه، فيرى نفسه في حرص على العبادات والطاعات ثم هو يجد هذا الدافع الذي يلح على فكره بسب الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم فيشك في دينه وإيمانه وليس الأمر كذلك.

وعلى الرغم من كل ما ذكرناه من الدلائل التي تدعم عدم علاقة الشيطان بالوسواس القهري، فإننا لا يمكن أن نقطع بذلك -رغم غلبة الظن- وذلك لأننا نبحث في أمور غيبية نؤمن بمجمل تأثيرها لكن لم ينقل لنا طبيعة وخصوصية ذلك التأثير، ومن حقنا أن نقول كمسلمين أنه يمكن أن يكون للشيطان دور في بداية الوساوس في بعض الحالات وهناك من يستطيع التغلب على هذه الفكرة التسلطية بالاستعاذة بالله وبآليات صرف الانتباه التي أمرنا بها سيد الخلق عليه الصلاةُ والسلام.

وهناك من تجد الوساوس في تكوين دماغه استعدادًا للإصابة باضطراب الوسواس القهري فيصاب به وهذا ما نعنيه حين نقول بأن الشيطان يمكن أن يكون هو المصدر الأولي للأفكار الاقتحامية التي تقتحم الوعي البشري فيفلحُ من يشاءُ له الله في التخلص منها ويقعُ من يشاءُ اللهُ لهُ الوقوعَ في براثن اضطراب الوسواس القهري من خلال كونه مهيئًا من الناحية البيولوجية أو المعرفية أو كلاهما للإصابة باضطراب الوسواس القهري، حتى وإن قلنا باحتمالية وجود دورٍ للشيطان في بداية حدوث الأفكار الاقتحامية في اضطراب الوسواس القهري، لأننا وضعنا هذا الفرض لتفسير مصدر الفكرة الاقتحامية الأولية فقط لكنَّ إصابةَ المريض باضطراب الوسواس القهري راجعةٌ إلى استعداد في تركيبة المخ البشري نفسه في ذلك المريض.

إذن لا بد لنا هنا من وقفة تحدد طبيعة تعاملنا مع كل من الوسواس القهري والوسواس الشيطاني، فالأخير علاجه معروف ومقاومته واضحة المعالم في أصول الشريعة من الكتاب والسنة، وبه يفتي علماء الشريعة وطلبة العلم السالكين طريق الله تعالى في كيفية مقاومة الشيطان والتغلب على وسوسته بـ:
ـ الاستعاذة.
ـ والأذكار.
ـ والقرآن وغيرها من العبادات.
ـ وكذا الصحبة الصالحة.
ـ والعلم الشرعي النافع الذي يدفع هذه الوسوسة.

أما النوع الأول: فلا بد من اللجوء فيه إلى أهل الاختصاص وهم الأطباء النفسيون ليوضحوا لنا كيفية العلاج، وهذا يقودنا إلى الحقيقة الرئيسية في موضوعنا هنا ألا وهي: أن الوسواس القهري مرض نفسي لا دخل للمريض في الإصابة به، ولكنه ابتلاء مثل غيره من الابتلاءات التي تصيب العباد، تختلف أشكالها وتتعدد أنواعها، وألوانها، ولكن تتحد كلها في مشقتها ومعاناتها ولزوم الصبر عليها، والأخذ بالأسباب لدفعها والتخلص منها، وتحصيل الشفاء المأمور به شرعًا، وإن قلب الطبيب النفسي المسلم ليتألم حينما يرى بعضا من بني أمته يصارع مرض الوسواس القهري لسنوات عديدة ويرفض زيارة الطبيب النفسي إما لقناعته بعدم فائدة العلاج النفسي في علاج علته، أو بسبب النظرة الاجتماعية السلبية تجاه الطب النفسي.

وعليه فقد أفاد الأطباء المتخصصون أن نسبة الشفاء من هذا المرض في ازدياد متصاعد مع استمرار التقدم العلمي الطبي في هذا المجال، بشرط الصبر والمتابعة والإشراف الطبي. وتصل حاليًا إلى الشفاء التام لنسبة لا تقل عن 60% ونسبة تتحسن بدرجة كبيرة لا تقل عن 80%.

وقد ورد سؤال إلى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في السعودية من شخص لديه وساوس عقدية فكان من جواب اللجنة: ادفع عنك الوساوس والخواطر الخبيثة واستعذ بالله منها ، وأكثر من ذكر الله وتلاوة القرآن ومخالطة الأخيار ، وعالج نفسك عند دكتور الأمراض النفسية والعصبية ، واتق الله ما استطعت ، والجأ إليه في كل ما أصابك......اهـ ( فتاوى اللجنة الدائمة، جمع الشيخ أحمد الدويش ، فتوى رقم 7654 ).

فالاستعانة بالله، والأخذ بالأسباب هي ما نحتاج إليه في كل الأحوال، ومن الأخذ بالأسباب العلاج بالعقاقير في حالة المرض، والصبر على علاج نفسي قد يطول، ويستحسن أن يبدأ بالعلاج فور تشخيصه على أنه وسواس قهري، أما إذا كانت مجرد خواطر سيئة متنوعة تأتي لتشغل التفكير حينا ثم تنصرف بالاستعاذة وذكر الله، ويمكن وقفها ببذل بعض الجهد والإرادة، فإن الأمر يكون أبسط، ولكن لا مانع من مراجعة الطبيب لتشخيص الأعراض التي أجملنا في وصفها.

وفي الأخير لعل هذا الجواب يكون قد ساهم ولو قليلا في كشف حقيقة قد التبست على كثير من الناس بجميع أطيافهم، وفتح آفاق واضحة وصادقة لمن ابتلاهم الله تعالى بهذا المرض بكافة أصنافهم، تنويرا للضمائر والعقول وتصحيحا للمدارك والفهوم وكشفا للهموم والغموم.

حسبي ما ذكرته وهذا ما تيسر جمعه نقلا وتنقيحا لمقالات واستشارات لبعض المشايخ وأطباء النفس الموثوق بعلمهم ومداركهم، المعروفين بديانتهم والتزامهم...

نسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يشفينا جميعا من الأمراض والأدواء، وأن يقينا جميعا من وسواس الشيطان وكيده، وهمزه ونفخه ونفثه... إنه سميع ذلك والقادر عليه والحمد لله رب العالمين وبالله التوفيق.




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©