عنوان الموضوع : من مشاهير علماء دولة المرابطين من التاريخ الجزائري
كاتب الموضوع : kouka
مقدم من طرف منتديات ايمازيغن

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم و رحمة الله

كانت دولة المرابطين مبنية على أسس شرعية ولذلك اهتمت بالعلماء والفقهاء الذين لا دوام لدولة تريد أن تحكم بشرع الله بدونهم, ولذلك كثر المُحَدِّثون والفقهاء، نذكر منهم:
أولاً: أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الجد .
هو الإمام العلامة شيخ المالكية، قاضى الجماعة بقرطبة أبو الوليد.
أ- شيوخه:
مِن أشهر شيوخه الذين تتلمذ عليهم أبو جعفر أحمد بن رزق، وأبو مروان بن سراج، ومُحَمَّد بن خيرة، ومُحَمَّد بن فرج الطلاعي، والحافظ أبو علي, وأبو العبَّاس بن دلهات.
قال ابن بشكوال فيه: «كان فقيهًا عالمًا، حافظًا للفقه مقدمًا فيه على جميع أهل عصره، عارفًا بالفتوى، بصيرًا بأقوال أئمة المالكية، نافذًا فى علم الفرائض والأصول، من أهل الرياسة فى العلم، والبراعة والفهم، مع الدين والفضل، والوقار والحلم، والسمت الحسن، والهدى الصالح، ومن تصانيفه كتاب «المقدمات» لأوائل كتب المدونة، وكتاب «البيان والتحصيل لما فى المستخرجة مِن التوجيه والتعليل»، واختصار «المبسوطة»، واختصار «مشكل الآثار» للطحاوي، سمعنا عليه بعضها، وسار فى القضاء بأحسن سيرة وأقوم طريقة، ثم استعفى منه، فأعفي، ونشر كتبه، وكان النَّاس يُعوِّلون عليه ويلجأون إليه، وكان حسن الخلق، سهل اللقاء، كثير النفع لخاصته جميل العشرة لهم، بارًا بهم».
ب- ومن أشهر فتاوى ابن رشد الجد ما أفتاه فى شأن المعاهدين مِن النصارى فى بلاد الأَنْدَلُس بإبعادهم وتغريبهم لغدرهم بالمسلمين ومساعدتهم لألفونسو المحارب، عاش هذا العالم الجليل سبعين عامًا, ومات فى ذى القعدة سنة عشرين وخمسمائة، وصلى عليه ابنه أبو القاسم، وروى عنه أبو الوليد بن الدباغ فقال: «كان أفقه أهل الأَنْدَلُس، وصنَّف شرح العتبية، فبلغ فيه الغاية».
ثانيًا: الشهيد القاضى الفقيه أبو على الصدفي:
هو العالم الفقيه القاضى المُحَدِّث الحسين بن مُحَمَّد بن سُكرة.
أ- شيوخه:
روى عن أبى الوليد الباجي، ومُحَمَّد بن سعدون القروي، وحجَّ سنة إحدى وثمانين، ودخل مصر على أبى إسحاق الحبال، وقد منعه المستنصر العبيدى الرافضى مِن التحديث.
قال: فأول ما فاتحته الكلام أجابنى على غير سؤالي، حذرًا أن أكون مدسوسًا عليه، حتى بسطته وأعلمتُه أنَّنى من أهل الأَنْدَلُس أريد الحج، فأجاز لى لفظًا، وامتنع من
غير ذلك.

رحل للعراق، فسمع بالبصرة من جعفر بن مُحَمَّد بن الفضل العباداني، وعبد الملك ابن شغبة، وبالأنبار: الخطيب أبا الحسن على بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الأقطع، وببغداد: على ابن الحسن بن قُريش بن الحسن صاحب ابن الصلت الأهوازي، وعاصم بن الحسن الأديب، وأبا عبد الله الحميدي.
وتفقَّه ببغداد على أبى بكر الشاشي، وأخذ بالشام عن الفقيه نصر المقدسي، ورجع إلى بلاده فى سنة تسعين بعلم كثير، وأسانيد شاهقة، واستوطن مُرسية، وجلس للإسماع بجامعها.
ورحل النَّاس إليه، وكان عالمًا بالحديث وطرقه, عارفًا بعلله ورجاله، بصيرًا بالجرح والتعديل، مليح الخطِّ، جيد الضبط، كثير الكتابة، حافظًا لمصنفات الحديث, ذاكرًا لمتونها وأسانيدها، وكان قائمًا على «الصحيحين» مع «جامع» أبى عيسى الترمذي، ولى قضاء مُرسِيَّة، ثم استعفى منه فأعفي، وأقبل على نشر العلم وتأليفه، وكان صالحًا ديِّنا، عاملاً بعلمه، حليمًا متواضعًا، وخرَّج القاضى عياض شيوخه, وذكر أنه أخذ عن مائة وستين شيخًا، وأنَّه جالس نحو أربعين شيخًا مِن الصالحين والفضلاء, وأنَّه أكره على القضاء فوليه، ثم اختفى حتى أعفى منه.
وتصدَّر فى زمن على بن يوسف فى نشر الكتاب والسنة فى مرسية بالأَنْدَلُس, وتوافد عليه الطلاب من كل حدب وصوب لينهلوا من علمه الجم الغزير, ونفع الله به المسلمين فى تلك الأقطار.
ب- وفاته:
استشهد أبو على الصدفى فى وقعة قُتُنْدَة بثغر الأَنْدَلُس، لست بقين من ربيع الأول، وهو مِن أبناء الستين، وكانت هذه الوقعة على المسلمين, وكان عيش أبى على من كسب بضاعة مع ثقات إخوانه.
انظر رحمك الله إلى هذا الطوَّد الشامخ، والجبل الراسخ، والبحر الزاخر فى حبه لطلب العلم ونشره، والدعوة إلى دينه والدفاع عنه، وحبه للجهاد والرِّباط، وحرصه على أكل الحلال، والتحرى فى لقمة العيش، والاستعلاء على الدنيا وزخارفها الكاذبة، ويا تُرَى كم نفس أحياها خبر استشهاد هذا العالم الفقيه الزاهد، وكان – رحمه الله – يتذوَّق الشعر الذى فيه الذَّود عن سنة سيِّد المرسلين, ويكتبه لتلاميذه, منه ما قال أبو عبد الله مُحَمَّد بن على الصورى لنفسه:
قل لمن أنكر الحديث وأضحى



عائبًا أهله ومن يدعيه


أبعلم تقول هذا؟ أين لي



أم بجهل فالجهلُ خُلُقُ السفيه


أيُعاب الذين هم حفظوا الدِّين



من الترهات والتمويه؟


وإلى قولهم وما قد رَوَوْه



راجعٌ كلُّ عالم وفقيه


ثالثًا: القاضى الفقيه أبو بكر بن العربي:
من أعظم فقهاء الأَنْدَلُس فى عصر المرابطين، هو القاضى أبو بكر مُحَمَّد بن عبد الله ابن مُحَمَّد المعافرى الأَنْدَلُسي، الإشبيلي, الإمام العلامة، المتبحر فى العلوم.
ولد عام 468هـ/1076م وتأدَّب ببلده، وقرأ القراءات، ثم رحل إلى مصر، والشام وبغداد ومكة وكان يأخذ عن علماء أى بلد يرحل إليه حتى أتقن الفقه، والأصول وقيد الحديث، واتسع فى الرواية، وأتقن مسائل الخلاف، وتبحر فى التفسير، وبرع فى الأدب والشعر، وعاد إلى بلده إشبيلية بعلم كثير، لم يأت به أحد قبله مِمَّن كانت له رحلة إلى المشرق.
أ- مكانته العلمية:
قال الشيخ صديق حسن خان عن ابن العربي: «إمام فى الأصول والفروع، سمع ودرس الفقه والأصول, وجلس للوعظ والتفسير، وصنَّف فى غير فنٍّ، والتزم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر حتى أُوذى فى ذلك بذهاب كتبه وماله؛ فأحسن الصبر على ذلك كله».
قال عنه القاضى عياض, وهو مِمَّن أخذوا عنه: «استقضى ببلده فنفع الله به أهلها لصرامته، وشدة نفوذ أحكامه، وكانت له فى الظالمين سورة مرهوبة، وتؤثر عنه فى قضائه أحكام غريبة، ثم صرف عن القضاء، وأقبل على نشر العلم وبثه».
قال عنه الشيخ أحمد بن مُحَمَّد المقري: «علم الأعلام، الطاهر الأثواب، الباهر الأبواب، الذى أنسى ذكاء إياس، وترك التقليد للقياس، وأنتج الفرع مِن الأصل، وغدا فى الإسلام أمضى مِن النصل».
ب- مؤلفاته:
للإمام القاضى أبى بكر بن العربى مؤلفات كثيرة لم يصلنا أغلبها، وقد قضى أربعين سنة فى الإملاء والتدريس، وفى بثِّ ما حصَّله مِن العلوم، وصنَّف -رحمه الله- فى فنون متعددة منها: علوم القرآن, والحديث، و«مشكل القرآن والحديث»، وأصول الدين، وكتب الزهد، وأصول الفقه، وكتب الفقه، والجدال والخلاف، واللغة والنحو والتاريخ، ومِن أشهر المؤلفات التى انتفع بها المسلمون «العواصم مِن القواصم»، «عارضة الأحوذى فى شرح الترمذي»، «أحكام القرآن»، «القبس فى شرح موطأ ابن أنس»، «المسالك على موطأ مالك», «الإنصاف فى مسائل الخلاف»، «أعيان الأعيان»، «المحصول فى أصول الفقه»، «قانون التأويل».
كان الإمام ابن العربى يصول ويجول بفقهه فى بلاد الأَنْدَلُس ينور طرق الظلام بعلمه، ويقضى على الشبهات بحججه، ويدمغ البدع المنتشرة بصبره وحلمه ودعوته، وكان من أعمدة دولة المرابطين فى نشر الكتاب والسنة وتفقيه النَّاس وتربيتهم على مبادئ الإسلام وأخلاق الإيمان ودرجات الإحسان.
وله فوائد علمية سجَّلها فى كتبه وانتفع بها طلاب العلم من بعده منها:
1- قوله: قال علماء الحديث: ما من رجل يطلب الحديث إلا كان على وجهه نضرة، لقوله:«نضر الله أمرأ سمع مقالتى فوعاها فأداها كما سمعها..».
قال: وهذا دعاء منه لحملة علمه, لابد بفضل الله تعالى من نيل بركته.
2- ومنه قوله: كنت بمكة فى سنة 489هـ وكنت أشرب من ماء زمزم كثيرًا، وكلَّما شربته نويت العلم والإيمان، فنويت العلم والإيمان، ففتح الله لى ببركته فى المقدار الذى يسَّره لى مِن العلم، ونسيت أن أشرب للعمل، ويا ليتنى شربته لهما حتى يفتح الله لى فيهما، ولم يقدر فكان صفوى للعلم أكثر منه للعمل.
وفاته:
أتاه أجله «بمغلية» قرب مدينة «فاس» فى ربيع الأول سنة 543هـ، ودفن فى فاس خارج باب المحروف على مسيرة يوم من فاس غربًا منها.
رابعًا: القاضى الفقيه عياض:
هو القاضى أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى اليحصبى السبتي، كان إمام وقته فى الحديث وعلومه والنحو واللغة وكلام العرب وأيامهم وأنسابهم، وصنف التصانيف المفيدة، ولد فى سبتة فى عام 476هـ، وتتلمذ على شيوخها ومن أشهرهم: القاضى أبو عبد الله بن عيسى، والخطيب أبو القاسم, والفقيه إسحاق بن الفاسي، وإبراهيم بن جعفر اللواتي، وإبراهيم بن أحمد القيسي، وأبو بكر القاسم بن عبد الرحمن الكومى وغيرهم الكثير.
أ- رحلته إلى الأندلس:
كان خروجه للأَنْدَلُس من بيته يوم الثلاثاء منتصف جمادى الأولى سنة 507هـ، وكان عمره إذ ذاك واحدًا وثلاثين عامًا، ومِن أشهر شيوخه الذين تتلمذ عليهم فى قرطبة أبو مُحَمَّد عبد الرحمن بن مُحَمَّد المشهور بابن عتاب القرطبي, وقاضى الجماعة أبو
عبد الله بن الحاج، والفقيه أبو جعفر بن رزق، وأبو مروان عبد الملك بن سراج، وأبو الوليد بن رشد الجد، وأبو مُحَمَّد عبد الله بن أحمد بن سعيد الأَنْدَلُسى الإشبيلى وأبو علي الصدفي.

وتحصَّل على علوم غزيرة وتصدَّر للتعليم والتدريس، وعُين فى القضاء، ونبغ فيه, واشتهر بعلمه وعبادته وعدله وجوده، وكانت مؤلفات القاضى عياض أكثرها فى الحديث الشريف، ثُمَّ فى التاريخ والطبقات ثم فى الفقه، ثم فى القرآن.
ب- مؤلفاته:
1-«الشفا بتعريف حقوق المصطفى»، موضوعه فى السيرة النبوية والعقيدة والأصول والتفسير والحديث.
2-«مشارق الأنوار على صحيح الآثار» وموضوعه تفسير غريب الحديث فى الصحاح الثلاثة: «موطأ مالك» و «صحيحى البخارى ومسلم»، فضبط أسماء الرجال والألفاظ, ونبَّه على مواضع الأوهام والتصحيفات.
وفى هذا الكتاب قال الشاعر:

مشارق أنوار تبدَّت بســـــبتة ومن عجب كون المشارق بالمغرب
فأجابه آخر بقوله:
وما شرف الأوطان إلا رجالها وإلا فلا فضل لتُرب على تُرب
3- كتاب «الإكمال»، أكمل به كتاب «المعلم بفوائد كتاب مسلم» لشيخه المازرى الفقيه المالكى المُحَدِّث المتوفى سنة 536هـ.
4-كتاب «منهاج العوارف إلى روح المعارف» وهو فى شرح مشكل الحديث.
5-كتاب «الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع» فى مصطلح الحديث.
6-كتاب «بغية الرائد فيما فى حديث أم زرع مِن الفوائد».
7- كتاب «التنبيهات المستنبطة على الكتب المدونة» فى الفقه وجمع فى هذه الكتاب فوائد وغرائب.
8-كتاب «الإعلام بحدود قواعد الإسلام» فى العقيدة.
9-كتاب «الخطب» يحتوى على خمسين خطبة من خطب الجمع.
10-كتاب «جامع التاريخ» فى التاريخ والطبقات.
11-كتاب «تاريخ سبتة» وهو مسودة.
12-«ترتيب المدارك وتقريب المسالك فى معرفة أعلام مذهب الإمام مالك».
13-«الغنية» وذكر فيه شيوخه وترجم لهم.
14-«المقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان».
15-«غنية الكتاب وبغية الطالب»، فى الأدب والإنشاء، وغيرها مِن المخطوطات والكتب التى تدل على سمو منزلته وسلامة منهجه.
لقد برع القاضى عياض فى أمور عِدَِة منها: القضاء والفقه والحديث واللغة والأدب، وكان شاعرًا مجيدًا, وله موهبة رائعة تدل على قدرته على نظم الشعر، ومن أروع ما قاله القاضى عياض مِن القصائد تلك التى أنشدها وهو يودِّع قرطبة فى عام 508هـ، بعد أن تلقَّى العلم فيها من شيوخها، وتوطَّدتْ له صلات بأهلها ومودة وصداقة وأخوة أكيدة، فقال مودعًا المدينة الأَنْدَلُسية ذات التاريخ العريق:
أقول وقد جدَّ ارتحالى وغرَّدت



حُداتى وَزُمَّت للفراق ركائبي


وقد غمضت من كثرة الدمع مقلتي



وصارت هواء من فؤاد ترائبي


ولم تبقَ إلا وقفة يستحثها



وداعى للأحباب لا للحبائب


رعى الله جيرانًا بقرطبة العُلا



وسقى ربُاها بالعهاد السواكب


وحيَّا زمانًا بينهم قد ألفته



طليق المُحيَّا مُستلان الجوانب


أإخواننا بالله فيها تذاكروا



معهاد جار أو مودة صاحب


غدوتُ بهم من برهم واحتفائهم



كأنى فى أهلى وبين أقاربي


ومن أشعاره الإخوانية التى وصف فيها ليلة جمعت من أصحابه كل ذى مكانة وفضل وجاه:
سَمَحَ الزمانُ بليلةٍ



غراءَ جامعة السرورْ


أجنتْ أكفُّ جُناتِها



قَطفَ الأمانى والحبور


ما فضَّ طينُ ختامها



فيما تقدم من دهور


دارت على فلك السعود



بمثل أشباه البدور


ما إن ترى إلا أميرًا



حاز إرثًا عن أمير


تَخذُوا القلوب أسرة



وثَوَوْا بها عوض السرير


فعليهم وقف العلاءُ



وإن تُدووِِلَت الأمور


لقد اهتمَّ الأمير على بن يوسف بالقاضى عياض لما كان شابا وظهر ذكاؤه وانتشر صيته، فأكرمته دولة المرابطين, وهيأت له الأجواء للمزيد مِن التحصيل والتفقه فى الدين.
وكان القاضى عياض لا يحب كثرة الأسفار والارتحال، ويلاحظ المتتبع لسيرته وحياته أنه كان قليل الارتحال بالقياس إلى معاصريه وأترابه مِن العلماء والفقهاء والمُحَدِّثين، وكانت له نظرية عجيبة فى ذم السفر وبيان أضراره وعيوبه نظمه فى الشعر، وخالفه كثير مِن العلماء فى نظرته المتفردة وإليك الأبيات التى ذكرها فى ذم السفر:
تقعَّد عن الأسفار إن كنت طالبًا



نجاةً ففى الأسفار سبعُ عوائق


تشوفُ إخوانٍ وفقدُ أحبةٍ



وأعظمها يا صاح سُكنى الفنادق


وكثرةُ إيحاشٍ وقلةُ مؤنسٍ



وتبذيرُ أموالٍ وخيفةُ سارق


فقد كان ذا دهرًا تقادم عهده



وأعقبه دهر شديدُ المضايق


فهذه مقالى والسلام كما بدا



وجرِّب ففى التجريب علمُ الحقائق


وهذه فلسفة غريبة فى الأسفار أخالف القاضى عياض – رحمه الله – فيها، إلا أنَّنى أقول إن الإنسان فى أسفاره العلمية أو التجارية عندما يقضى مآربه عليه أن ينتقل إلى غيرها, حتى يحقق أهدافه ويرجع إلى وطنه وقومه غانمًا سالمًا مفيدًا لأهله وشعبه, وقد ذكر العلماء فى الأسفار فوائد فقال الشافعى رحمه الله:
تغرَّب عن الأوطان فى طلب العلى



وسافر ففى الأسفار خمسُ فوائد


تفرج همِّ واكتسابُ معيشةٍ



وعلمٌ وآداب وصحبةُ ماجدٍ


وقال الإمام الشافعى فى الاغتراب أيضًا:
ما فى المقام لذى عَقلِ وذى أدبِ



من راحةٍ فَدَعِ الأوطان واغتربِ


سافر تجد عوضًا عمن تفارقه



وانصب فإن لذيدَ العيش فى النصب


إنِّى رأيت وقوف الماء يفسده



إن ساح طاب وإن لم يجرِ لم يطبِ


والأسدُ لولا فراقُ الأرض ما افترست



والسهمُ لولا فِراقُ القوسِ لم يُصب


والشمسُ لو وقفت فى الفلك دائمة



لملَّها النَّاس من عُجم ومن عرب


وكان مِمَّن عاصر القاضى عياض العلامة الشيخ يعلى أبو جبل, وكان له رأى يخالف رأى القاضى عياض فى السفر نظمه فى هذه الأبيات:
سافر لتكسب فى الأسفار فائدة



فَرُبَّ فائدةٍ تُلقى مع السفر


ولا تُقم بمكان لا تُصيبُ به



نصحًا ولو كنت بين الظل والشجر


فإن «موسى» كليم الله أعوزهُ



علم تكسَّبَهُ فى صحبة الخضر


ومن شعره فى الأشواق ما نظمه من أبيات واصفًا فيها شوقه وحنينه لزيارة المدينة المنورة فقال:
يا دار خير المرسلين ومَن به



هدى الأنام وخُصَّ بالآياتِ


عندى لأجلك لوعة وصابة



وتشوقٌ متوقدُ الجمرات


وعليَّ عهدٌ إن ملأت محاجري



من تلكم الجدران والعرصات


لأعفرنَّ مصونَ شيبى بينها



من كثرة التقبيل والرَّشقات


لولا العوادى والأعادى زرتها



أبدًا ولو سعيا على الوجنات


لكن سأهدى من جميل تحية



لقطين تلك الدار والحُجُراتِ


أذكى مِن المسك المفتق نفحةً



تغشاه بالآصال والبُكرات


وتخصه بزواكى الصلوات



ونَوامى التسليم والبركات


وله أبيات يصف فيها نفسه وشوقه إلى وطنه قالها فى مدينة «داي» ببلاد المغرب سنة 541هـ، وكان قد ناهز الخامسة والستين مِن العمر، وكان مرغمًا على البقاء فيها ممنوعًا للرجوع إلى بلاده فى زمن دولة المُوَحِّدِين.
يعلم الله وأنا أمر على هذه الأبيات التى فجرت الأحزان فى نفسي، وألهبت مشاعرى وهيجت الأشواق إلى مدينتى «بنغازي» ومنطقتى «الحدائق»، وذكرتنى ببلادى العزيزة ليبيا ما تملكت دموع الشوق إلى مسقط رأسى الذى طالت مدة غيابى عليه أكثر من أربعة عشر عامًا نصفها مسجونًا فى بلادي, والنصف الآخر قضيتها متنقلاً بين البلدان، ولم تكن تهمتى التى كلفتنى هذه العقوبة القاسية التى أحتسبها عند الله إلا أن رضيت بالله ربا وبالإسلام دينًا وبمُحَمَّد نبيًا ورسولاً .
إن أبيات القاضى عياض فى غربته أضفت على وأنا أترجم حياته مسحة مِن الحزن, ولوعة مِن الأسى, وإحساسًا بالحنين إلى أهلى ووطني، وأحبتى وإخواني، فقال القاضى – رحمه الله – وهو يحاور حمامة مرَّت به:
أقمرية الأدواح بالله طارحِى



أخا شجى بالنوح أو بغناء


فقد أرقتنى من هديلك رنة



تهيج من شوقى ومن بُرحائي


لعلك مثلى يا حمامُ فإنني



غريب «بداي» قد بُليتَ بداءِ


فكم من فلاةٍ بين «داي» و «سبتة»



وخَرق بعيد الخافقين قواءِ


تصفقُ فيه للرياح خوافقٌ



كما ضعْضعتنى زفزةُ الصعداء


يذكرنى سحُّ المياه بأرضها



دموعًا أريقتْ يوم بنتُ ورائي


ويعجبنى فى سهلها وحزنها



خَمائل أشجارِ ترف لِرائي


لعلَّ الذى كان التفرُّق حكمهُ



سيجمع منَّا الشمل بعد تنائي


منقول من كتاب : فقه التمكين عند دولةالمرابطين ( للأمانة النقلية ) .







©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©