عنوان الموضوع : مغارة ابن خلدون من الشخصيات الجزائرية
كاتب الموضوع : chahinez
مقدم من طرف منتديات ايمازيغن

مغارة ابن خلدون


تقع قلعة بني سلامة المعروفة بتاغزوت على بعد ستة كيلومترات من مدينة فرندة بالغرب الجزائري وهي بموقعها هذا تحتل مكانا حصينا على شكل نتوء صخري بالحافة الشرقية لهضبة بلاد شبيبة يعرف محليا بكاف الحمام ( 1030 م ) يشرف على منخفض وادي التحتأو حوض فرندة ومكان القلعة اليوم يوجد ضريح سيدي خالد وتنتشر عدة مغارات تعرف بموقع ترنانش الذي توجد به نقوش صخرية تشهد على أنه كان موطنا مفضلا للسكن منذ فجر التاريخ وغير بعيد عنها في الناحية الشرقية يوجد موقع أريرة (ARIRA )المعروف محليا بخربة سبيبة حيث توجد آثار رومانية منها بقايا حصن صغير ومعالم حمامات وخزانات ماء كانت تشكل في القرن الثالث الميلادي إحدى النقاط الحصينة في خط الدفاع الروماني المعروف باللميس ( LMES ) .

إن هذا الموقع الذي تتميز به قلعة بني سلامة جعلها موطن استقرار بشري في مواجهة قبائل الرحل المنتشرة في السهوب العليا الوهرانية ،فهي منطقة انتقال بين مجال الزراعة ونطاق الرعي ونقطة اتصال بين نمط حياة الاستقرار وأسلوب حياة البداوة اللذين كان لهما حضور في نظرة ابن خلدون عن نوعية النشاط الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية القائمة على مبدأ العصبية والناتجة عن تبادل المصالح بين المزارعين والبدو ، وبين رؤساء العشائر والحكام المحليين.

لقد كان موقع قلعة بني سلامة ( تاغزوت) منذ الفتح الإسلامي موطن تجمع لإحدى بطون زناتة التي كانت في معزل عن الصراع المذهبي والنزاع القبلي بين زعماء زناتة ورؤساء صنهاجة والذي تحول إلى مواجهة حربية شهدتها بلاد المغرب من الاستحواذ على مناطق النفوذ عقب سقوط الدولة الرستمية بتاهرت ( 296 هـ /908 م)وتحدي الفاطمين في القرن الرابع الهجري ( العاشر الميلادي ) لنفوذ الخلافة الأموية بالأندلس ، المعتمد على مناصرة زعماء القبائل الزناتية بالغرب الجزائري بعدها تحولت قلعة بني سلامة أثناء حكم المرابطين ثم الموحدين للمغرب الأوسط ( القرنان 5 و6هـ) إلى ملجأ لبعض عشائر زناتة ولعل هذا ما أبقي تاغزوت – قلعة بني سلامة فيما بعد –بعيدة عن اهتمام المؤرخين والرحالة والجغرافين الذين كتبوا عن المغرب الأوسط فلا نجد لها ذكرا في كتبهم ولم تعرف أخبارها إلا مع استقرار القبائل الهلالية بمناطق السهوب الوهرانية وسعي الحكام الزيانيين بتلمسان لاستمالتها والاستعانة بها في صراعهم المرير مع الحفصيين بتونس وبجاية والحكام المرينين بفاس ومراكش في القرن السابع الهجري ، الثالث عشر الميلادي .

وأثناء ذلك أصبحت تاغزوت ومنطقتها موطنا لقبيلة توجين المرتبطة بالولاء مع عشائر سويد الهلالية ، الأمر الذي سمح لبعض العرب المنقطعين من سويد بالتوجه إليها واتخاذها رباطا يقيمون به قبل أن يتمكن رجال بني يدللتن من توجين من امتلاكها وهذا ما شجع زعيمهم الشيخ سلامة بن نصر سلطان على أن يتخذها مقرا له بعد أن اختلط بها قلعة لتكون سكنا له فنسبت له وأصبحت تعرف بقلعة بني سلامة .
تحولت قلعة بني سلامة ونزمار بن عريف بعد أن اقتطعها له السلطان المريني أبو عنان عند استيلائه على المغرب الأوسط ومحاصرته لمدينة تلمسان ( 753هـ/1352) فاعتنى بها ابنه أبو بكر بن عريف وبنى بنها قصره الذي نزل به ابن خلدون ولم تبق من آثار هذا القصر اليوم سوى بعض الكتل من الحجارة المتناثرة بعد أن تهدم وهجره سكانه إثر سقوط الدولة الزيانية ( أواسط القرن العاشر الهجري / السادس عشر الميلادي) واشتداد الصراع القبلي على المراعي ونقاط المياه ولم يعد يدل على قلعة بني سلامة سوى الاسم المحلي الذي أصبحت تعرف به هو- تابراجت- التي تعني الأبراج باللهجة الزناتية كما لم تبق من ذكريات إقامة ابن خلدون سوى بعض وادي التحت والتي تذهب بعض الروايات الشفوية لسكان المنطقة إلى أنها كانت مكان خلوة ابن خلدون المفضلة أثناء إقامته بقلعة بني سلامة، كما غدت اليوم المكان المفضل للزوار الذين يريدون التعرف على موقع قلعة بني سلامة .


حياة مضطربة

لقد عرف ابن خلدون وقبل إقامته بقلعة بني سلامة حياة مضطربة اشتغل خلالها بالوظيف وعاش حياة الترف ببلاطات حكام بجاية وتلمسان وفاس وغرناطة ، كما خبر فيها محنة السجن وتنكر الأصدقاء فقد بدأت رحلته في الحياة التي انتهت به إلى قلعة بني سلامة عند مغادرته لموطنه تونس (755 هـ/1354 م) مدفوعا بفورة الفتوة وطموح الشباب فنزل تبسة ثم حط رحاله ببسكرة وأسند إليه وظيف الحجابة لحاكم بجاية وحاز منزلة مفضلة ببلاط الزيانيين بتلمسان وحاشية السلاطين المرنيين بفاس.
واظب ابن خلدون على حضور مجالس العلماء والتمرس على شئون الحكم منذ شبابه الباكر ، وهذا ما ساعده على استكمال ثقافته ونضج شخصيته وسمح به باكتساب الخبرة في تصريف شئون الحياة ومع تقدمه في السن لم يعد ينجذب إلى بريق السلطة ويتعلق بأبهة المناصب واشمأزت نفسه من ظروف عصره المضطرب وواقع مجتمعه المغاربي وداخله اليأس بعد أن تراجعت الحياة الحضرية بأقطار المغرب أمام اجتياح البداوة للمناطق الزراعية وتحول شرائح واسعة من سكان المدن إلى حياة التصوف في وقت كان فيه الحكام يتهافتون على تبوؤ المناصب الحكومية على الرغم من فشلهم في وضع حد لحالة الفوضى والإéطراب وعجزهم عن الوقوف في وجه رؤساء العشائر الهلالية وزعماء القبائل الزناتية .

كل هذه الظروف جعلت عبد الرحمن بن خلدون يحن إلى حلقات الدرس ويميل إلى الانعزال عن شواغل الوظيف والانقطاع للتفكير والعبادة والانغماس في الكتابة فأصبح هذا الميل قناعة راسخة لديه إثر أن توترت علاقته مع صديقه لسان الدين بن الخطيب وبعد أن اضطر إلى مغادرة الأندلس للمرة الأولى تجنبا للحساد ( 766 هـ/1364 م) ثم للمرة الثانية بتدخل من رجال البلاط المريني ( 776هـ/1374 م ) فحط رحاله في الألى ببجاية وهو متخوف من بطش السلطان تلمسان الزياني أبي حمو.

اطمأن ابن خلدون بعد أن التحقت به أسرته قادمة من فاس مع حلول عيد الفطر ( 776 هـ/ 1374 م ) لكنه لم يهنأ بمقر إقامته بالعباد قرب تلمسان فقد استدعاه مجددا السلطان أبو حمو للقيام بأمر الوساطة بينه وبين قبائل الذواودة للتوثيق التحالف معها في صراعه مع الحفصيين فلم يجد بدا من تلبية الطلب ردا للجميل ودفعا لعائلة رجال الدولة الزيانية .

التحق ابن خلدون بعد مغادرته تلمسان البطحاء ( غليزان الحالية ) ومنها عدل عن السير إلى مواطن الذواودة بالشرق الجزائري وتوجه جنوبا بعيدا عن تلمسان حيث أحياء أولاد عريف جنوب جبل كزول غرب تاهرت فلقي الترحاب ووجد المساندة لدى الشيوخ أولاد عريف الذين توسطوا له لدى السلطان أبي حمو حتى يصرف النظر عنه ويسمح بالتحاق أسرته التي تركها بتلمسان فلم يمض ايام معدودة حتى التأم شمل أسرته مجددا وتوافرت له أسباب الراحة والهدوء بقلعة بني سلامة وقد سجل ابن خلدون ذلك قائلا :- التحقت بأحياء أولاد عريف قبلة جبل كزول فتلقوني بالتحفي والكرامة وأقمت بينهم أياما حتى بعثوا علي أهلي وولدي بتلمسان وأحسنوا العذر إلى السلطان عني في العجز عن قضاء خدمته وأنزلوني بأهلي في قلعة بني سلامة من بلاد توجين التي صارت لهم بإقطاع السلطان-.

خمس سنوات من العمل

طابت إقامة ابن خلدون بقصر قلعة بني سلامة الذي وصف بأنه : - من أحفل المساكن وأوثقها - فأقام به خمس سنوات متواصلة ( 776 – 780 هـ /1374 -1378 م ) يستعرض تجاربه ويتأمل واقع الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بالمغرب الإسلامي فأمعن نظره في العلل المتحكمة في العلاقات الاجتماعية و أسلوب حياة وطريقة العيش وسجل ما انتهى إليه من آرا ء على اعتبارها مقدمة لما كان يعتزم الكتابة عنه من تاريخ المغرب الإسلامي.

حرص ابن خلدون بعد أن أنهى كتبة مقدمته – في السنة الرابعة من إقامته بقلعة بي سلامة ( منتصف عام 779 هـ/ 1377 م ) – على تصحيحها وتهذيبها فواجهته مشكلة المصادر والمراجع ومالت نفسه إلى الخروج من عزلته والى تجديد الصلة بالمناخ العلمي والحياة الاجتماعية وهزه الحنين إلى زيارة مسقط رأسه ومرتع صباه مدينة تونس فهيأ نفسه للرحيل متعللا بأن الأوراق التي اصطحبها معه إلى قلعة بني سلامة لم تعد كافية لكتابة تاريخه وقد وصف حالته هذه الى سيرته بقوله : وتشوقت إلى مطالعة الكتب والدواوين التي توجد إلا بالأمصار بعد أن أمليت الكثير من حفظي وأردت التنقيح والتصحيح لكن المرض يفاجئه ويضطره إلى قضاء السنة الخامسة طريح الفراش يعاني الآلام التي اشتدت به وكادت أن تقضي عليه وهذا ما عبر عنه بهذه العبارة : - ثم طرقني مرض أودى على الثنية لولا تدارك من لطف الله- .

وما عن تعافي ابن خلدون من مرضه حتى جهز نفسه للسفر مع أسرته إلى مسقط رأس مدينة تونس بعد أن تلقي جوابا من السلطان الحفصي أبي العباس أحمد ( 772-796 هـ/1370-1394/ م ) يستحثه على القدوم ويرحب بوفادته عليه وكان ابن خلدون قد راسله في شأن قدومه إلى تونس وعلل ذلك بقوله : -فوجدت ميلا ألا مراجعة السلطان أبي العباس في الرحلة إلى تونس ، حيث قرار آبائي وسالفهم وآثارهم وقبورهم ، فبادرت إلى خطاب السلطان بالفيئة إلى طاعته والمراجعة ، وانتظرت غير بعيد وإذا خطابه وعهود بالأمان والاستحثاث للقدوم -.

غادر ابن خلدون مواطن أولاد عريف بقلعة بني سلامة مع حلول شهر جب من سنة 780 هـ/1378 م فالتحق بعشيرة الأخضر ، أحد بطون قبيلة رياح أثناء قدومهم إلى منداس للتزود بالحبوب وصاحبهم في عودتهم إلى موطنهم بالدوسن من ارض الزاب ، وهذا ما سجله بقوله : - فكان الخفوف للرحلة فظعنت عن أولاد عريف مع عرب الأخضر رياح كانوا هناك ينتجعون الميرة بمنداس وارتحلنا وسلكنا القفر إلى الدوسن من أطراف الزاب -. وبعد هذه الرحلة الطويلة نزل ابن خلدون بمضارب الشيخ يعقوب بن على بالقرفار من ارض الزاب ومنها انتقل الى قسنطينة حيث مكث بعض الوقت عند أميرها الحفصي ابراهيم من ابن العباس الذي كفل له أسرته أثناء توجهه إلى تونس.




قلعة بني سلامة ومغارتها بضواحي تاهرت التي اعتكف بها ابن خلدون وكتب مقدمته المشهورة

اين كتب ابن خلدون مقدمته ؟

لم يطب المقام لابن خلدون بمدينة تونس فقد تخوف منه رجال حاشية السلطان الحفصي ابي العباس أحمد وعمل بعض رجال الحاشية على الكيد له وأظهروه لدى السلطان على أنه رجل داهية ومصدر دسائس ومؤمرات فلم يجد عبد الرحمن بن خلدون بدا والحالة هذه من مغادرة مسقط رأسه متحججا لدى السلطان بأداء فريضة الحج وأبحر من ميناء تونس نحو الإسكندرية على ظهر إحدى سفن الحجاج ليصلها بعد خمسة وثلاثين يوما في البحر يوم 7 ديسمبر 1382 م (784 هـ).

لقد طوى ابن خلدون برحيله من بلاد المغرب واستقراره بالقاهرة صفحة مضطربة من حياته بأقطار المغرب عرف فيها أيام عزه وكانت مصدر إلهامه لتتحول بقية سنوات عمره في دار الهجرة بمصر إلى حياة أحد رجال العلم الذين كانت تعج بهم مصر المملوكية ولم يعد يربطه ببلاد المغرب سوى ذكريات انقضت وآمال انطوت وطموحات خابت حاول الاشتغال بالتدريس وامتهن وظيفة القضاء فتولى قضاء المالكية بالقاهرة خمس مرات وأدى فريضة الحج وأصبح من رجال الدولة المملوكية المقربين فصاحب السلطان برقوق ( 784 -801 هـ) عند خروجه إلى دمشق أثناء تعرضها لهجوم تيمورلنك سنة 803هـ/ 1400 م ، فكانت له مقابلة مشهورة مع هذا الفاتح العظيم الذي قدر في ابن خلدون مواهبه وحسن تصرفه ورغبه في الانتقال معه إلى سمرقند لكن ابن خلدون أحسن التملص من عرض تيمورلنك ليعود إلى القاهرة ، حيث وافته المنية سنة 808 هـ / 1406 م عن سن تناهز الخامسة والسبعين عاما.

ثلاثة عوامل مهمة

لقد احتل ابن خلدون مكانة مرموقة في سجل التاريخ بعلمه وأفكاره وأبقي ذكراه حية لدى الأجيال ومكانته محفوظة ف سجل التراث الفكري العربي بما سجله من آراء ومفاهيم تاريخية ضمنها مقدمته فأتى فيها بشيء جديد لم يسبقه إليه الكتاب السابقون ولم يحسن تقليده الكتاب المتأخرون ، وهذا ما تنبه اليه ابن خلدون وأشار إليه بهذه العبارة : - وشرعت تاليف هذا الكتاب وأنا مقيم بها – أى قلعة بني سلامة – وأكملت المقدمة منه على ذلك النحو الغريب الذي اهتديت إليه في تلك الخلوة فسالت فيها شأبيب الكلام والمعاني على الفكر حتى امتخضت زبدتها وتألفت نتائجها -.

إن الآراء الجديدة والمنهج المبتكر الذي أخذ به ابن خلدون في مقدمته والذي يتميز به عن غيره من العلماء الذين سبقوه أو الذين أتوا بعده يعود في نظرنا إلى تفاعل ثلاثة عوامل قلما اجتمعت لغيره من ذوي المعرفة
اولها يتعلق بثقافة ابن خلدون نفسه والتي تعتبر بحق حصيلة التراكم المعرفي لعصره والعطاء العلمي لبيئته بأصالتها المشرقية وحيويتها الأندلسية وعمقها المغاربي وهذا ما يجعل من ابن خلدون النموذج المعبر عن الحضارة العربية الإسلامية بالمغرب في فترة بلغت فيها أوجها على عهد الموحدين وبدأت في تراجع والجمود بعد أن انقسمت بلاد المغرب إلى الدول الإقليمية التي حكمت من بعد انقسام دولة الموحدين - 667 هـ/1269 م - . ففي هذا الوقت الذي أعقب العصر الذهبي للثقافة المغاربية والذي عاش فيه ابن خلدون تم جمع التراث العربي الإسلامي بالمغرب وتمت المحافظة عليه بفضل حلقات الدروس ومجالس العلم بتونس وبجاية وتلمسان وفاس ومراكش وغرناطة هذه الحلقات التي ظلت لفترة طويلة منارات علم ومعرفة وأماكن إسهام وعطاء للثقافة العربية الإسلامية ببلاد المغرب .

أما العامل الثاني فهو حنكة ابن خلدون وخبرته بأمور الحياة وتجربته العلمية في ممارسة الوظائف السلطانية والقيام بالمهام الإدارية ببجاية وتلمسان وفاس وهذا ما جعله يتجاوز الرؤية المحدودة والنظرة القاصرة والموقف الذاتي في فهمه لواقع الحياة وتحليله للظواهر الاجتماعية المتحكمة في المجتمع المغاربي ، والتي أحسن التعبير عنها بمصطلح - الاجتماع الإنساني - فقد أكسبته خدمته لحكام بجاية وتلمسان وتعامله مع حكام فاس غرناطة وارتباطه بصداقة عميقة مع شيوخ القبائل العربية بالمغرب الأوسط من بني مزني ببسكرة وحتى أولاد عريف بقلعة بني سلامة خبرة وتجربة كانت نعم العون ل في تحديد علل الأحداث التاريخية وفهم تطور المجتمع.

ويتمثل العامل الثالث في تأثر ابن خلدون بالبيئة المغاربية وخاصة منها الشروط الطبيعية والواقع البشري السائد بالمغرب الأوسط ( الجزائر( فكان لهذا الوسط تاثير على مزاجه الشخصي وعلى توجهاته الفكرية ومما يؤكد الحضور الجزائري في فكر وعطاء ابن خلدون كون جل الأحداث المهمة التي عاشها في حياته قبل هجرته إلى المشرق ارتبطت بالبلاد الجزائرية منذ قدومه إلى تبسة عام 755 هـ/1354 م وأن أغلب ملاحظاته عن المجتمع والسلطة والاقتصاد استقاها من واقع الحياة في الغرب الأوسط ( الجزائر ( فلاحظ في هذه البيئة تباين اسلوب العيش واختلاف السلوك والمعاملة بين سكان الحواضر وخاصة بجاية وتلمسان وقسنطينة وبين أهالي الريف والمناطق الساحلية حيث ظل أغلب السكان يشتغلون بالزراعة وبين العشائر البدوية بالهضاب العليا وأطراف الصحراء فلمس في هؤلاء البدو الغلطة التى أوقعته في مشاكل معهم حيث تعرض للتعنيف والضرب في سوق بسكرة وجرد من ملابسه ونهب متاعه وعندما كان متوجها من مدينة تلمسان نحو فاس كما عرف فيهم الشهامة والأريحية والإخلاص فطابت إقامته لدى شيوخ بني مزني بالزيبان ورياح وأولاد عريف بقلعة بني سلامة .

إن العوامل التي سبقت الاشارة اليها تؤكد لنا أهمية دراسة التوجهات الفكرية الخلدونية انطلاقا من رصيد ثقافة ابن خلدون وحصيلة خبرته وتاثير بيئته وذلك من منظور تحليل الدوافع النفسية والظروف المعيشية والثقافية التي كانت سائدة في حواضر المغرب العربي وبعيدا عن مناقشة الافكار والمفاهيم في اطارها النظري فقط الذي نتج عنه قصورنا في تعاملنا وفهمنا لنظريات الخلدونية والتي لسوء الحظ باتت لا تتجاوز المعطيات النظرية بعيدا عن الظروف التاريخية التي افرزتها وفي معزل البيئة التي أوجدتها على الرغم من أن الكون الفكر الخلدوني كما عبرت عنه المقدمة اسهاما إنسانيا خالدا يعكس خبرة ومعرفة بواقع المجتمعات الحضرية والبدوية بالمغرب الإسلامي.

منطق الفكر الخلدوني

ان المنطلق الفكر الخلدوني والإطار المحدد لنظريته في مجال علوم التاريخ والاجتماع والسياسة يكمن في دراسة مجتمع المغرب الأوسط وتحليل الواقع الذي عاشه ابن خلدون بقلعة بني سلامة لكونها المختبر الذي رصد فيه ملاحظاته انطلاقا من الشروط الطبيعية ومتطلبات الحياة اليومية القائم على جدلية الصراع بين نمط الاستمرار وممارسة الزراعة وبين اسلوب البداوة ومزاولة الرعي .

لقد كانت منطقة بني سلامة البيئة المثالية لتشكل العصبية القبلية القائمة الساعية لاكتساب النفوذ وحيازة الثروة وهذا ما جعل ابن خلدون يقتنع بأن ممارسة السلطة أساسها قوة العصبية سواء بالنسبة لشيوخ العشائر العربية أو زعماء القبائل الزناتية أو حكام تلمسان الزيانية ما دامت شروط البيئة وطبيعة العلاقات الاجتماعية هي التي تفرض رابطة العصبية وتحدد موازين القوى بين الحاكم والمحكوم وبين الممارسة الفعلية للسلطة والسعي الحثيث للحصول عليها.

ولعل هذا ما جعل قلعة بني سلامة مقصد المستشرق الفرنسي اوجستن بيرك وابنه جاك بيرك اللذين وقفا مرارا متسائلين عن مدى ارتباط موقعها بخصوصية الفكر الخلدوني وتأثيرها على ملاحظات ابن خلدون حول العلاقة بين حياة الاستمرار والبداوة لأن قلعة بني سلامة من حيث شروط النظر الجغرافية والاجتماعية تمثل البيئة المثالية لتفاعل أسلوبين مختلفين من حيث نمط العيش وطريقة الحياة فالفلاحون بالجهات الواقعة إلى الشمال منها كانوا من مواجهة زحف القبائل الهلالية والعشائر الزناتية القادمة من السهوب الواقعة إلى الجنوب للاستحواذ على المزيد من المراعي الخصبة الواقعة في الشمال حيث تشكلت الأحلاف القبلية في مواجهة نفوذ حكام تلمسان .

ان ابن خلدون ما كان في استطاعته أن يكتب مقدمته لولا رجوعه لنفسه وانقطاعه للتأمل في قلعة بني سلامة بارض المغرب الأوسط ( الجزائر ) وهذا ما يجعل المقدمة بحق حصيلة الثقافة التي اكتسبها والتجاريب التي عاشها والمجتمع الذي تاثر به فظلت إنجازا متميزا لم يرق ابن خلدون إلى مستواه فيما سجله من أحداث في تاريخه ( كتاب العبر ) بعد أن إفتقد برحيله من قلعة بني سلامة الهدوء العقلي والحافز النفسي ولعل هذا ما يفسر التباين بين المقدمة وكتاب العبر فالمقدمة تتميز بوضوح النظرة والعمق والسمو في طرح قضايا التاريخ بينما كتاب العبر يغلب عليه العرض والوصف والرواية







©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©