عنوان الموضوع : صاحبة المنديل الزهري**مسابقة فن القصة** ثقافة عربية
كاتب الموضوع : hamida
مقدم من طرف منتديات ايمازيغن

صاحبة المنديل الزهري

_جو هته السنة شديد البرودة،والشمس فيها قليلة السخونة،أو بالأحرى قليلة الظهور خلف الكتل المكدسة،أشجارها مرسومة الهيكل بلون العنوسة،
وأرضها تكسوها حمرة الطين وتربة،والخلق لعبة تمشي في جوها تسعى خلف الحاجة.
_وأنا جالس على مكتبي قرب النافذة،أرقب المار والقادمة بلا ملل،وفنجان قهوتي يصارع للهرب من بين يدي،فهو لا يزال معي منذ وضعته صاحبة الأيادي الحنونة مع أوائل النهار،وبعد لحظات سينطق صوتها الرقيق يدعوني للغداء،لا أبالي بمعاناته،أرشفه لمجرد أنها عادة رافقت كل صباحي.
_أشفقت هته المرة عليه،وتركته فوق المكتب متخيلا أنه يغني لفراقي،وودعت صاحبي العصفور بصفيري المعتاد،أرتدي معطفي وأنزل الدرج في قفزات،وقبلت يد الحنونة أعلمها عدم انتظاري،فأنا معزوم لدى الأصحاب.
_ ما إن خطوت أول خطوة للشارع،استقبلي ريح الشتاء القارس،بنفسه الخشن يتحدانللرجوع،فواصلت خروجي وكأني في مهمة سرية،لا تستدعي الاستعجال،أمام تحدي الريح.
_أمشي في الرصيف كسلطان،يخط الخطوات على بساط أحمر،وحدي...لا تمر بقربي سوى سيارات، أو حافلات المدارس،ترافق وحدتي لحظات،وألبث أخط خطوة أخرى وحدي،خطوة...خطوة،قدماي تلعب بحجرة صغيرة،لا أدري متى رافقتهما،لكنها تبعدني عن عالم الجنون،الذي قارب أن يملك نفسي.
_في إحدى الرميات،انحرفت الحجرة عن الطريق،
فأقبلت أعيدها لمسارها في الرصيف معي،ومع انحناءتي لحملها،وضعت الريح منديلا زهريا مع بعض الأوراق الصفراء،مددت يدي أمسكها،منجذبا للونها الباهت،أكثر من انجذابي لوجودها في هذا الجو الشتوي،وبناظي بحثت عن بنت أو فتاة تراعي شيئا فقد منها،فاستحالة أن يكون المنديل ملك شاب.
_على بضع خطوات ينتهي الشارع،على اثنان آخران سكنيان،أتقدم وأخفي المنديل في سترتي،وألتفت علي أجد من ظلت منديلها،فلمحت الناس متجمعة وسط مفترق الطرق،وعددها في ازدياد، هرولت نحوهم أشبع فضولي،فإذا بها بنت في الربيع من عمرها،تحتضنها صديقتها ودموعها تنهمر عليها،خرقت الجمع أدنو من البنت الباكية،فتلك الفتاة بنت جيراننا، حياة،وأختي من الرضاعة،رفعت رأسها إلي قائلة:"فاطمة.......إنها فاطمة يا عبد الرحيم".
_على ذكر اسم فاطمة،دق جرس في ذاكرتي
بحنين،يذكرني....فاطمة ابنة حينا التي رحلت منذ إحدى عشر عاما،كل هته السنين زادتك جمالا يا فاطمة....،صرخ الضمير بداخلي"أهذا وقت الهوى
أين فطنتك يا فتى"، فاندفعت إلى الطريق أعترض أول سيارة مارة، وبدون إذن فتحت بابها الخلفي،و أدخلت الفتاتين وأنا أغطي فاطمة بمعطفي،وقرب السائق جلست قائلا"على لمح البرق إلى المستشفى".
_قبل إيقاف السيارة في مكانها،قفزت من السيارة أسبق الوقت لأحملها،واندفعت للداخل أبحث عن طبيب،وتركت حياة خلفي بخطوات،تهتم بأمر الثرثرة التي مع أول الباب،دخلت أول غرفة ومن حسن حظها كان الطبيب بداخلها يهم بالرحيل،فعاد ليعاينها وأمر بخروجي في الحين.
_وقفت أستند على باب الغرفة أرتعش،ليس من البرد،فجبهتي كانت تتعرق،أسمع خطوات حياة تدنو مني وهي تكبت دموعها،وبين ناظري منظر فاطمة كيف كان،يغطي جل وجهها الدم،ويلطخ ملابسها،أحاول فهم ماحدث بيني وبين نفسي،ثم سمعت صوتها يخاطبني..."قررنا أن نعود مشيا إلى البيت،كما نعهد أن نفعل لو خرجنا في وقت مبكر،سرنا على طريقنا المألوفة،ثم ظهرت السيارة لا أدري من أين،رمتني محاولة إبعادي،فوقعت هي في أسرها،وسقطت على حافة صخرة كانت في الطريق......"وأنهتها ببكاء مخنوق،خجلة مني،لولهت استغربت كيف تكلمت معي وكأنها كانت تسمع نجواي بيني وبين نفسي،تقدمت إليها أهدئها، وأهدئ نفسي معها.
_بعد ثلاث ساعات مرت فيها ملائكة المشفى آلاف المرات تحمل قطنا وضمادات إلى الغرفة، وكلهن يدخلن ويخرن ولا يعرننا انتباه،وكأننا غير موجودان هناك،فنفذ صبري وفاض في كيلي، اقتحمت الغرفة مصدوما في الطبيب يعيدني إلى الخارج معه،وأنا أسرق بعيناي ما تسنى لي قبل الخروج، "ما بها....أهي بخير؟..أجرحها خطير، أستكون في أحسن حال......."،أتكلم معه ويداي توشكان على مصارعته،طبطب بيديه على ظهري يقول"جرحها برغم اتساعه ليس بخطير،إلا أنها فقدت الكثير من الدم،ولا بد من تعويض ذلك،... ستكون على ما يرام هون علك"،هدأت تلك الكلمات من رعشتي،وطمأنت حياة بها علها تمسح عيناها الحمراوتين،وطلبت منها المغادرة،سأبقى أنا معها،"لا....سأظل هنا"أفزعتني بقولها ذالك وهي تقف كالجدار الذي يصعب تدميره أمامي، لكني غلبتها بأني لا أعلم أين تقطن،ومن سيعلم أهلها.
_همت بالرحيل في خطوات ثقيلة،وسألت أول ممضرة مرت بعدها عن كيفية التبرع بالدم لها،فصيلة دمي "و إيجابي"،فطلبت مني مرافقتها.
_مرت حوالي ساعة ونصف،تبرعت فيها بالدم وعدت أنتظر خارج الغرفة مرور الطبيب أستأذنه بالدخول،أو قد تنادي هي فأهب إليها،فجأة ...سمعت خطوات سريعة يصحبها صراخ يقول"أين هي....أين؟"، كانت حياة قد عادت مع أخيها عامر،
وأدهم...أخو فاطمة الكبير،دخل مباشرة غرفتها، لكن الممرضة أخرجته بقوة،وأمرتنا بالهدوء وعدم الدخول دون إذن،فالمرضى بحاجة للراحة.
_وقع أدهم على الأرض مصدوما لرؤية أخته في تلك الحالة،تقدمت منه ببطء،والخوف يتملكني،
أطمئنه أنها ستكون بخير،رفع عيناه المغمورتان بالدمع ولا تذرفان،قائلا"ومن تكون؟...."،نطق عامر"هذا عبد الرحيم جارنا...."، ضمني بعدها بشدة، كدت أختنق فيها،وانهمر يبكي على كتفي.
_الساعة تشير إلى حوالي الثامنة ونصف،تلقت فيها فاطمة ما يلزم من الدم والدواء،و أدهم يفعل ما يراه مناسبا للاعتناء بأخته،وقفت قرب النافذة أتأمل خيوط الليل تنسدل في كل مكان،ثم سمعت صوت أمي يناديني،فأسرت إلى هاتف المشفى أدق للبيت،وكانت هي التي ردت على:
_"ألو.....أمي"
_"عبد الرحيم ...أأنت بخير،أين أنت؟"
_"أنا بخير....لا تقلقي علي حبيبتي،سأبيت هته الليلة خارجا،مع صديقي،أتحتاجينني أنا تحت أمرك"
_"اعتني بنفسك يا ولدي،لا أريد شيء"
_"سلمي على إخوتي ووالدي"
_"يبلغ،حفظك الله" طيييين(انقطع الإتصال)،سامحيني أمي،وبينما أنا أضع سماعة الهاتف،لمحت الطبيب الذي عاين فاطمة،أسرعت إليه أستفسر حالها، وأسأله إمكانية دخولي،قال وهو يضع يداه في جيب مئزره"هي الآن في حالة فقدان الوعي،فالدم الذي فقدته أثر على نشاط جسمها الطبيعي،دعها ترتاح حتى يعيد جسمها طبيعته".
_عدت أجر أقدامي إلى الغرفة،استقبلني أدهم بعيناه المحمرتان الأطراف،قائلا"لقد كبرت وصرت رجل،وغيرتك تلك اللحية التي تحد فكك فانسجام، ولم أعرفك...تعال(ويضمني بيد واحة) شكرا على ما فعلت و...."قاطعته أنه ذلك ما كان يجب فعله، وسألته أين عامر وحياة،قال"لقد أخذها للبيت،فتلك البنت جد عنيدة،يمكنك أنت أن تذهب وترتاح فأهلك قد يكونون قلقين عنك"
"اتصلت بهم قبل قليل،أعلمتهم أني سأبيت مع صديقي"،في حينها تقدمت ممرضة نحونا تحمل معطفي،تسأل لمن يكون،مددت يدي أمسكه وأشكرها،ولا إراديا أدخلت يدي في جيبي المعطف،يااااااه، أحسست بنعومة غير معهودة فيه، أخرجتها تحمل المنديل الزهري،سعدت لعدم ضياعه،وارتحت لذلك لا أدري لما.
_غفوت تلك الليلة على الكرسي برغم الضوضاء التي في رواق المشفى،فقت على رائحة القهوة الساخنة،علمت أن أدهم هو الذي تركها،ولم أجده بقربي،اندفعت مباشرة إلى الغرفة،فربما حدث شيئ وأنا نائم،فوجدته قربها يقبل يداها،فلم يطاوعه قلبه على عدم تفقدها مثلما قال لي،خرجت أغلق الباب بهدوء ،وعلى إثره ناداني صوت أمي "عبد الرحيم.." ،ظننت أني أتوهمه من شدة تعبي،لا...هي حقا أمي مع عامر وأخته،أسرعت إلى أحضانها أهدئها وأرتاح فيه،ونظرت إلى عامر "كيف علمت..."،قالت " محمد مر في الصباح يسأل عنك وعن مفاتيح المحل،فأخبرته أنك لم تبت هنا، وأقبلت إلى عامر أرى إن كنت عنده،فأنت لا تفضل غيرهما،حاول أن يخفي لولا قدوم حياة في الوقت المناسب، وأخبراني كل شيء.......أين هي الآن؟"،أدخلتها حياة الغرفة وأنا أنظر لحياة بطرف عين،وجلسنا نحن الثلاثة نخفي أمر دخولهما.
_تقدمت إحدى الممرضات تبتسم بعيناها وشفتاها نحو ثلاثتنا وقالت:"كنتم خمسة عند الباب وأنتم الآن ثلاثة..."،نظر كل منا إلى الآخر مدعيا عدم الفهم،اتجهت إلى الغرفة وقلوبنا تخفق بشدة قائلة:"لا عليكم سأدعي عدم رؤية شيء"،وبعدها خرجت أمي وحياة،وناولتني أمي معطفا آخر، وأخذت ما كنت أرتديه،ونظراتي إلى حياة فهي لم تترك حتى أدق التفاصيل إلى وأخبرت أمي بها، تفقدت المنديل في غفلة الكل، وأعطيت أمي مفاتيح المحل لو عاد محمد يسأل عنها،"لقد أفاقت صاحبتكم"تنطها الممرضة وتفتح لنا الباب،اندفع جميعنا دفعة واحدة إلى الداخل،سمعتها تقول بصوة تعب: "لم تخبر والدي ياأدهم أليس كذلك".
وأخوها يجيب:"ارتاحي فلم أخبره بشيء".
_انتهى ذلك اليوم وفاطمة في بيت أخيها، فأهلهما يبعدون مسافة عن المكان، أحسنت ضيافتنا زوجته،ودعتنا للعشاء،لم نشأ أن نثقل عليهما أكثر،فغادرنا نحمد الله على السلامة،وفي طريق العودة،سألت أمي كيف لم تطلب العودة من قبل،فأجابتني أن فلة لا تدرس اليوم وهي ستهتم بما يلزم.
*****************
- انتهى الشتاء وقارب فصل الريع على أيامه الأخيرة،توطدت علاقتنا بأدهم وأخته أكثر خلالها،منذ تلك الحادثة،فاطمة تقيم عند أخيها،أهلهما يقيمان على بعد مئتا وخمسون كيلومتر عن المكان،تدرس في الجامعة علوم الأدب مع حياة، صرت أزورهما كل ثلاث أسابيع،ثم اقتصرت المدة حتى صارت يوميا،وفي أيام العطل أزورهما في البيت،وقليل ما يأتون عندنا،صارت زياراتي كأولوية من أولوياتي،حتى جاء يوم سألني فيه شريكي محمد في المحل عن السبب،صمت لحظات ثم أجبته أنه حال الجيران،قال"ولما لم يكن في السنن التي مضت،ما معنى الآن"قوله لتلك الكلمات أدهشني،وأحسست بخوف من الإجابة،لولا دخول زبون المحل،لكنت تحت تحقيقات محمدية، فصدقوني لو بدأت،لا تنتهي أبدا.
-خرجت أحتمي تحت ظل الزبون،أدعي أني في موعد مهم،متأكد أن حيلتي لم تنطلي على محمد،قصدت الحديقة تتردد على مسامعي أسئلة محمد طول الطريق،أحاول إيجاد أجوبة لنفسي ومقنعة،جلست في إحدى الكراسي،قرب فتاتان تعكسان لي بظهرهما،لم أتعمد التصنت لحديثهما،لكن كلمة "أشتاق"هي التي دعتني لذلك،تقول إحداهما: "أشتاق لملمسه الناعم على يدي،ومروره الخفيف على خدي،واستنشاق عطره في نفسي،وأنس صحبته في وحدتي..."،دغدت مشاعري كلماتها،وأطربت أذناي بسماعها،ردت صاحبتها تقول"انه مجرد منديل....لا تجعلي.."،
قمت من مكاني أدخل يداي إلى بنطالي،أتفقد المنديل،فقد كنت دائم الحرص على وجوده معي،لم أجده،ثم تراءت لي أني غيره و أنا أهم بالخروج صباحا لما كسبت عليه القهوة،وبينما أسرع مغادرا المكان،صدمت بصخرة أثارة ضجة من حولي،وسمت بعدها صوتا يناديني"عبد الرحيم.......انتظر"،ولم لتفت ورائي وكملت طريقي.
-عند وصولي غرفتي ،وجدت أمي تمسك بالمنديل وتجلس على سريري،لم تنتبه لي حين دخلت برغم الفوضى التي خلفتها،تقدمت أسألها"أمي .....أهناك شيء"،لم ترفع رئسها لي وقالت" كيف وصل إليك هذا المنديل"،أخبرتها كيف وجدته، وهي لم ترمقني بنظرة،"لم تعرف بعد صاحبته"،أعلمتها أني لا أعرف هو لمن،أعطتني إياه وخرجت من الغرفة صامتة،ولم تقل حتى كلمة.
-في وقت القيلولة،جاءت حياة لتدرس فله،فهي مقبلة على شهادة البكلوريا،دخلت أسلم عليها،وسألتني عن سبب وجودي في الحديقة،قلت أني رغبت في التمشي قليلا هناك،فرأيتك وصديقتك فقلت آتي لأسلم،وفي طريقي لكما،تذكرت موعدا لولى الصخرة لما علمت بأمري،نطقت فلة"أكنت مع فاطمة....."
"أجل ولما؟..."
"أي لما...."
والتقتا حياة و فله معا،سينتشر الخبر في نشرة خاصة،بعد قليل،خرجت من عندهما وقد احمرت وجنتاي،ولأول مرة،اتهرب من تحديهما فقد كنت ألهو بذلك معهما.
طننننن طنننننننن –يدق جرس الباب-
"أنا سأفتح" أقولها وأتجه للباب في قفزات
"أهلا بكما" -محمد وعامر أمام الباب-
"أهلا بك ،تعال ...."
"لا تفضلا، !!!"
"لا تعال نجلس في القهوة"
"لابأس مادمت مصر"
مضينا إلى قهوة ليست ببعيد،ثم بدأ محمد الكلام"قررت أن أتزوج...."، رفعت ناظري إلى عامر فوجدته ينظر إلي،ثم انفجر كلانا يضحك،لم نصدقه،فقد كان يلهو بهته الكلمة في كل مرة، استقطعنا يقول"أنا أتكلم بجد،.....حتى أني كلمت الوالدة في الموضوع،وهي توافقني، فالحمد لله ،شغلي معك ناجح، والطلب على الأجهزة الكهرومنزلية مستمر ...."سأله عامر:
" من تكون"
"أختكما........حياة "
قمت وعامر في نفس الآن،ثم قام محمد مستغربا،ضممته إلي وهنأته،وضمه عامر كذلك،وتلاشى وشاح الاستغراب من وجهه،ثم استأذنتهما المغادرة،أعرض محمد "مازال بيننا حديث"
"غدا اسألني ما تريد"وتركاني أذهب.
أقبلت أمشي لا أدري وجهتي أين،مشيت مطولا وحدي،ومن بين الأنس الذي مر من حولي، مرت فتاة شبهتها لفاطمة،فمشيتها لها مماثلة،تقدمت أقطع الشك باليقين،فإذا بها هي عينها،سلمنا على بعض،وسألتني عن كل الأهل،وبدون تردد سألتها أين تذهب،سكتت لولهة تستغرب سؤالي، ثم أجابتني تبتسم"أعود للبيت"،طلت أن أوصلها،لم تمانع وتول أني لم أعد غريب.

-بعد بضع خطوات-

"أردت أن أشكرك شخصيا على مافعلته حين أصبت في الحادث،حقا....ربما كنت سأموت ولن أعيش حتى هذا اليوم"
"ولولى ذلك اليوم لما كنت معك الآن" قلتها وصوتي يبتسم
رمتني بنظرة حادة،تسأل إن أعجبني ذلك الحال،رموشها تصرخ لتقلع وفي جسدي تنغمس،لكن شفتاها هدأت الموقف وابتسمتا.
مر الوقت بسرعة،والطريق قصرت في ولهة،تفارقنا في أسفل الباب،وقلت عن غير إدراك: "اعتني بنفسك لأراك في الغد"،والتفت أكمل طريقي كبريء،أسرع في الابتعاد من هناك لكي لا أرى أدهم،فمن شدة احترامي له أخافه،وصلت البيت وهم يحظرون للعشاء،استأذنتهم أني غير جائع،وانعزلت في غرفتي،أرافق المنديل ونغم عصفوري،مر على أذناي أسئلة كثيرة "لم تعرف بعد صاحبته"........"أكنت مع فاطمة".....،وحوار فاطمة وحياة،الفتاتان اللتان كنتا تعكسان لي بظهرهما في الحديقة،اقتنعت أن المنديل لفاطمة،هي صاحبة المنديل،قمت بعدها أدنو من الخزانة،لمحت محفظة على مكتبي،استفسرت عنها فوجدتها لمحمد ،وكتب في ورقة جانبية"أنتظرك للغد بفارغ الصبر"،ارتمى جسدي عل الكرسي،وضحكة تملكت شفتي،ورعشة غزت يدي،ثم قمت وكأني أخاكطب كل العالم:
"وما المشكل؟.........ومما أخاف ،أجل أحب.....أحب فاطمة".
في صباح اليوم التالي،أقبلت في طريقي إلى المحل،أو مثلما قررت بداخلي أني سأفعل،نسمات ذاك الصباح خفيفة،تداعب شعري يمينا وشمال،مررت على مقهى قارب على فتح أبوابه،وقفت أمامه أحاور نفسي"مر وقت طويل ولم أشرب قهوة عمي عيسى....."واصلت طريقي دون أدعو نفسي لشرب قهوة عنده،أداعب محفظتي في حركة صبيانية،تارة آتي به إلى الأمام،وتارة إلى الوراء،وكتفي يصارع عدم إيقاعه،لمحت المكتبة في الطرف الآخر،تعكس الشمس صور المجلات في اتساق،وخيوط ألوانها تشدني إليها وتجذب،ملت إليها أقلب الصفحات في انصباب كبير،انزلقت المحفظة من كتفي الذي عانى من طيشي الصبياني،لم أبالي،أكملت أقلب الصفحات،بعد حين،أحسست بخفة على ذراعي،وعطر نسائيا في أنفاسي،أدرت رأسي أستنشق أكثر،إنها فاطمة تمسك بالمحفظة:
"صباح الخير"
"صباح النور"أشد على النون وأطيل الواو
"لمحتك من بعيد تقلب المجلات،ولم تنتبه لوقوع محفظتك،اسمح لي بأن أمسحها لك"
"لا عليك ..."وأدخلت يدي أجذب منديلي الورقي،فأوقت المنديل الزهري،انحنيت أحمله وعيناي في فاطمة،تغيرت ملامح وجهها وهي تقول "أين وجدته"
جال في خاطري لما لم أحمله وأهم بالفرار،لم أكن مستعدا لإعطائه إياها ،بل لم أفكر بذلك بعد،مدت يدها تنزع المنديل مني،عيناها قد اغرورقا بالدموع،ثم انهمرت الدموع على خديها،مددت ذراعي لأهدئها،لكن نفسي لم تطاوعني،فقد شعرت أن كل الناس تنظر إلينا،نطقت بصوت لا تسمعه غير أذناها"سيري معي سأخبرك أين وجدته" .
كنت أعلم أين سأذهب،و هي لا فقد كانت خطواتها مترددة نوعا ما،تصارع البكاء وتكبته،وحين استدارتنا للشارع الكبير،علمت أني متجه للحديقة،جلسنا على كرسي تبدو عليه علامات الشيخوخة،تكلمت وصوتها ينهه :
"ظننت أني فقدته إلى الأبد، قد تقول أني مجنونة،أو فدت عقلي،لأنه مجرد منديل،لكن لا ... بالنسبة لي هو مابقي لي يذكرني بأمي،وجوده في يداي كنعومة يديها،يذكرنني بوم صنعناه معا كيف كانت تضحك ،وكيف كانت قريبة مني ......."صمتت تصارع البكاء
"وأين هي......"
"أخذتها الأيام....''
"رحمها الله"
"ماتت حيت كانت تلد بسفيان،كنت أمسح العرق من جبهتها به يومها،حين توفيت،لم أشعر بذلك،فقد كانت تبتسم لي،كنت بمثل عمر هاته الفتاة"
مرت تمسك بأمها بكفها،عمرها في حدود السابع أو الثامن من السنوات، لم تكف النظر إليهما حتى غادرا ناظريها،لم أعرف ماذا أقول أو ماذا أفعل،فأصعب ما في المرء أن يفقد نبع الحنان فكيف بإنسانة تفقدها بين كفاها البريئتان ،رن هاتفها بنغمة يداولها الكل،لأنها أغنية جديدة الظهور،لم تطل المكالمة بينها وبين المتصل،لكنها تركت ابتسامة في وجهها:
"يجب أن أذهب"
"أنا آسف إن كنت قد ذكرتك بماض فيك مؤلم، أنا حقا آسف"
"لم تخبرني أين وجدته؟"
"اذهبي يكفيك ما تذكرته"
-غادر كل منا الحديقة في وقتين مختلفين،وصلت المحل والسكوت يخيم علي،لاحظ محمد ذلك فلم يسألني شيء،"كنت مع فاطمة في الحديقة،التقيتها في المكتبة وقد أوقت المنديل صدفة،المنديل الزهري الذي أخبرتك عنه،ذكرها بوم وفاة أمها،فقد صنعاه معا،جاءتها مكالمة فذهبت...."
"حاولت الاتصال كثيرا بك،لكنك لم ترد"
"آه....نسيته يشحن"
"لابأس أأحضرت الأوراق..."
ثم انغمسنا في العمل،فقد كان ضيفنا ولم يشأ الرحيل،في حلول المساء تركناه هناك لنعود إليه في الغد،وعن عودتي للبيت،سمعت صوت ضحك وحديث في غرفة الاستقبال،دققت الباب لأدخل،ناولتني أمي صينية القهوة،وجدت رجلا شائب بعض الزغب،وعلى فخذه الأيسر تجلس فتاة ذات الثلاث سنوات،وعلى جنبه طفل أسود الشعر وكثيف،أصفر البشرة،سلمت عليهم وجلست أقابلهم،قال والدي "مؤكد لم تعرفهم،أليس كذلك"
"لا .............لكن أهلا وسهلا"
"هذا أبو أدهم،وابناه سفيان وحلا،جيراننا فيما مضى"
تذكرت المكالمة التي جاءت لفاطمة،ثم غيرت مكاني إلى جنب سفيان،وظللت أحاوره حتى غادروا.
مرت أيام الأسبوع الأولى،وفي ليلة الأربعاء،اكتظ بيتنا بالأهل،وفلة تحوم في أرجاء البيت تنتظر ظهور النتائج،جاءت أخت حياة الصغرى،كثيرة الخجل،ولو ازدادت خجلا تذهب كل الكلمات, وتعكس أحرفها،أعلمت أمي بأن تأتي في الغد،وبينما كنت أوصلها،اتصل محمد بي:
"ألف مبروك أختك فلة نجحت،وأنت مدعو يوم الخميس لحفل الخطوبة"




©المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى©